في تفسيره لسورة الزمر، وعند قوله تعالى: "والسماوات مطويات بيمينه"، قال الإمام الزمخشري: "وكم من آية من آيات التنزيل، وحديث من أحاديث الرسول، قد ضِيم وسيم الخسف، بالتأويلات الغثة، والوجوه الرثة؛ لأن من تأولها ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلًا منه من دبير". تدوي هذه الكلمات في أذني كلما أطل علينا عييّ لا يحسن القراءة والكتابة، كي يتحدث في مسألة "التجديد"، لاسيما بعد أن فُتحت الأبواب الإعلامية على مصارعها أمام نفر من رافعي راية "نقد التراث"، ليس بينهم من يحسن قراءة جملة مفيدة أو إقامة عبارة سليمة. لقد تصدر الشاشات من يروج لفكرة هزلية مفادها أن علماء الدين من مفسرين وفقهاء ومحدثين وأصوليين عبر أربعة عشر قرنًا تواطؤوا كلهم على تشويه الإسلام والنبي ومخالفة صريح القرآن والافتراء على الرسول "صلى الله عليه وسلم"، من عهد البعثة إلى أن ظهر "المجدد" المدعي ليفضح هؤلاء الأئمة، ويستنقذ الإسلام من المسلمين. لا يمتلك أي من هؤلاء المتصدرين الحد الأدنى من الأدوات التي تمكنه من قراءة نص تراثي، فضلًا عن نقده، وليس لديهم ما يقدمونه للجمهور الباحث عن الإثارة، والفضائيات الحريصة على الإعلانات إلَّا التفتيش في كتاب قديم عن فقرة جذابة، تتضمن رأيًا أو فتوى تخالف آخر ما توصلت إليه البشرية من قيم العدل والمساواة، أو مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ربما لا يدرك تجار التجديد، وسماسرة "تنقية التراث" أنهم يقفون مع خصومهم على أرض تراثية، فكلاهما قد كبله التراث بأغلاله، وكلاهما قد غرق في الماضي بكتبه ومشايخه ومتونه وشروحه وحواشيه، وكلاهما يصر على فهم واحد للنص، يؤيد مواقفهم المسبقة الجاهزة المعلبة. قضاياهم قديمة، فنقد البخاري مثلًا، أو رد أحاديث رواها، لم يتوقف من عهد البخاري حتى يوم الناس هذا، لكن مدعي التجديد الذي لا يمكنه فهم صفحة من مقدمة "فتح الباري"، اختار أن يرد كل حديث لا يوافق هواه، وأن يسب الرواة، وأن يتهم صاحب الصحيح بتعمد الكذب على الرسول الأكرم. وبقدر ما يفتقد الجهول المجدد للأدوات الأولية لفهم التراث، بقدر ما يمتلك من جرأة وتوقح يعينانه على وصف حديث ما بأنه مخالف للقرآن، هكذا بطريق القطع دون أن يشك في فهمه للحديث، أو أن يتوقف مع فهمه للآية التي يظن أنها تتعارض مع الرواية التي يرغب في ردها. ولابد من الإقرار هنا، أن من قرروا التصدي العلني لمدعي "التجديد"، لم يكونوا أحسن حظًّا من خصومهم، وبدوا أمام الجميع في حالة من الضعف والتناقض والارتباك والتهرب من المواجهة الموضوعية، بل إنهم فوتوا لخصمهم أخطاء قاتلة، كان مجرد إظهارها كافيًا لكشف دركات جهله. كان "المجدد" المزعوم يستشهد زاعقًا بجزء من آية، لا صلة لها بما أراد الاستدلال عليه، بأي وجه من الوجوه، ومع تكراره لهذا الجزء من الآية، أصبحت متيقنًا أنه لا يعرف معناها، ولا يمكنه أن يكملها، بل لا يعرف في أي سورة تقع، وإنما هي جملة حفظها بلا وعي، ورسخت في ذاكرته بلا فهم. لكن أكبر العجب، كان ممن تصدى لمناظرته، دون أن يرد عليه خطأه البين الفادح، ولو من باب إفحامه وإظهار جهله للملايين أمام الشاشات، فسياق المواجهات، وتكرار "المناظرات"، أثبت أن الخصوم في الجهل سواء، وأن من تولى كبر المواجهة ليس بأقل جهلًا. ومن اللافت أن وسائل الإعلام تتجاهل إلى حد كبير أصحاب المشاريع الفكرية الجادة، الذين ألزموا أنفسهم بمنهج صارم، وبنظر دقيق، بحثًا عن الحقيقة، وليس لإفحام الخصوم. لمَ لا تحتفي الفضائيات والصحف بالطرح الجاد للدكتور علي مبروك مثلًا، وقد بذل الرجل جهدًا مشكورًا لتحليل وفهم عبارة "تجديد الخطاب الديني"، محددًا المقصود بكل لفظة من ألفاظها، مبينًا أن التجديد الحقيقي يجب أن يشتبك مع ما يسميه ب"المفاهيم المركزية" في منظومة الشريعة، ويرى مبروك أن المفهوم المركزي الذي يدور حوله الفقه هو "التمييز"، مطالبًا بفقه جديد يتحرر من تمييز الرجل على المرأة، والمسلم على غير المسلم، والعرب على العجم، والأقوياء على الضعفاء.. إلخ. ولا شك أن ما يطلبه علي مبروك هو أعمق أثرًا وأشد خطرًا، مما يزعق به "المجددون التلفازيون"، الذين لا يملون من تكرار خطتهم القديمة البائسة المتمثلة في استخراج الأقوال والفتواى الصادمة من كتب تراثية تعاقبت عليها القرون. لكن الطرح الرصين العميق لمبروك لا يروق لسماسرة المناظرات، ولا لملاك الفضائيات التي تمارس دورًا مهمًّا في تغييب العقول وتسطيح الفهم، كما أنه لا يروق لكثير من أدعياء العلمانية، الذين يريدون إشعال معركة لا معنى لها في محتواها وتوقيتها مع المتدينين، دون تحصيل أي مكاسب حقيقية.. وبالطبع لا يروق ما يقدمه مبروك لممثلي المؤسسة الدينية، التي يندر أن تجد بين أبنائها من لديه القدرة على فهم كتابات مبروك أصلًا، فضلًا عن إقامة حوار معه. في سفره الخالد "الكشاف"، قال الإمام الزمخشري: "الفقيه وإن برّز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القِرِّية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلَّا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علما البيان والمعاني". لا أظن أن عظة الزمخشري تنفع من يفخر بجهله، إذ لم ينتفع بها من زعموا التفرغ للعلم الشرعي، وحازوا الشهادات العالية من الأزهر، لكني أكاد أجزم أن الزمخشري لو اطلع على "مناظراتهم" لم يكن ليطالبهم بإتقان "البيان والمعاني"، ولكانت نصيحته لهم أن يتقنوا القراءة والكتابة.