على خلفية توغل الجيش التركي إلى الحدود العراقية، والدخول إلى مدينة الموصل في محافظة نينوي بزعم تدريب عناصره، دعا العراق مجلس الأمن الدولي أمس الجمعة، إلى مطالبة تركيا بسحب قواتها من شمال بلاده بشكل فوري وغير مشروط. وبعد الاعتراض العراقي الشديد على التواجد التركي في بلاده، أكدت تركيا أنها ستخفض عدد قواتها في محافظة نينوي، بالإضافة إلى تخفيض عدد الآليات والأسلحة الثقيلة، لكنها لن تنسحب بشكل كامل بزعم أن العراق أصبحت مرتعًا للإرهابيين ولابد من تأمين الحدود معها، لكن الرد أغضب العراقيين، فقال السفير العراقي في الأممالمتحدة، محمد علي الحكيم، في رسالة إلى سامانثا باور التي ترأس مجلس الأمن الشهر الحالي: «ندعو مجلس الأمن إلى مطالبة تركيا بسحب قواتها فورا، وعدم خرق السيادة العراقية مرة أخرى». أعادت تصريحات السفير العراقي للذاكرة تاريخ الخلافات العراقية التركية حول الموصل، حيث استمرت الهيمنة العثمانية على الموصل حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وكانت بريطانياوفرنسا عقدتا اتفاقية سرية عرفت باسم «سايكس بيكو» قسمت فيها الولايات العربية التي كانت تحت الحكم العثماني بين الدولتين، فكانت ولاية الموصل جزءاً من منطقة النفوذ الفرنسي، إلا أن بريطانيا احتلتها عام 1918، رغم عقد الهدنة مع العثمانيين، وبعد اكتشاف النفط في ولاية الموصل، تمنت بريطانيا من إقناع فرنسا بالتنازل عن الموصل في معاهدة سيفر سنة 1920, غير أن تركيا استمرت في المطالبة بأحقيتها حتى سنة 1925 عندما قررت عصبة الأمم عودة الموصل إلى العراق رسمياً في 3 أكتوبر 1932. وفي عام 1934، أجرت عصبة الأمم استفتاءً في ولاية الموصل لتحديد مصيرها وتبعيتها لأي من المملكة العراقية أو الجمهورية التركية بعدما رفضت الأخيرة الاعتراف بالحدود الجديدة التي رأت أنها فرضت عليها من المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. وكانت النتيجة كاسحة لصالح بقاء الموصل ضمن الدولة العراقية، وصوت أهل المدينة من مختلف أطيافها وتلاوينها الطائفية والعرقية، بمن فيهم الأكراد لمصلحة عراقية الموصل، في حين عملت بعض العائلات الموصلية، ممن لها صلات ومصالح بالدولة العثمانية، على إلحاق الولاية بالدولة التركية التي تحولت إلى جمهورية بعد وصول كمال أتاتورك إلى السلطة وإنهائه الخلافة العثمانية. وانطوت الصفحة من الجدل العراقي التركي، لكن ظلت تركيا تنظر إلى المدينة التي تعد ثاني أكبر مدن العراق، على أنها امتدادا للعهد العثماني، وحافظت ولاية الموصل على أهميتها بالنسبة للجمهورية التركية التي تفتقر للنفط، خاصة على سنوات الاستكشاف والإنتاج من حقول «بابا كركر» وكركوك التي بقيت تجهز العراق بأهم وارداته. وتصاعد وتيرة التواجد الكردي في هذه المنطقة، أعطي إقليم الموصل أهمية خاصة للدولتين العراقية والتركية، خاصة بعدما أصحبت كردستان العراق ملجأً آمناً لمقاتلي حزب العمال الكردي PKK الثائرين ضد الحكومة التركية، والعكس صحيح، حيث حافظ مقاتلو البيشمركة من كرد العراق الذي أنشئوا حكما ذاتيا ومثلوا تهديدًا للدولة العراقية بعد التلويح باستقلالها، على حماية الحدود الدولية التركية التي لم تكن تسمح للقوات العراقية باجتيازها كي تطارد «البيشمركة». وخلافًا لهدفي النفط والتمرد الكردي اللذين يعتبران الرئيسين في تحديد أسباب تدخل تركيا في العراق ومحاولة استعادة الموصل، يمكن إضافة اعتبارات أخرى، منها تفضيل تركيا لعراق لا مركزي معزول الأقاليم، بالإضافة لإبقاء الأقلية الاثنية التركمانية التي تقطن غالبيتها إقليم كركوك الغني بالنفط، التى يمكن أن تطالب بالحماية التركية في أي وقت تشعر فيه بخطر وجودي يهددها. وبعد غزو أمريكا للعراق وما تبعه من ضعف الجيش والحكومة العراقية، تنظر تركيا اليوم إلى هذا الامتداد في محاولة لانتزاع الموصل كحق تتوهم أنه تاريخيًا لها، فحاولت تركيا على مدار الأعوام السابقة استغلال الوضع العراقي الهش، واستقطاب بعض أهالي منطقة الموصل بزعم أنها ستوفر لهم حياة أفضل من التي يعيشونها. وظهرت في 2008 دعوات عراقية لإجراء استفتاء حول انضمام الموصل إلى تركيا مرة أخري، وحذر سالم الجبوري، المتحدث باسم جبهة التوافق العراقية، من أن أهالي الموصل لن يجدوا أي وظائف مستقبليا في بغداد، داعيًا إلى استفتاء لانضمام الموصل إلى تركيا، وذكر عدة فوائد، منها أن تركيا دوله إسلامية علمانية، إضافة إلى انضمام تركيا في المستقبل المنظور إلى الاتحاد الأوروبي، أي أهالي الموصل سيصبحون أوروبيين وضمن حلف الناتو. واستغل الجيش التركي في الفترة الأخيرة الوضع الأمني المتدهور في العراق بعد استيلاء تنظيم داعش على مناطق عديدة، وأرسل قواته إلى منطقة بعشيقة الواقعة قرب مدينة الموصل في شمال العراق بموافقة ضمنية من الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في كردستان العراق وبطلب من محافظ نينوى السابق آثيل النجيفي، والمعلن من التدخل هو محاربة الإرهاب وتدريب قوات عراقية، إلا أن محللين أكدوا أنه لأهداف تاريخية عدة، في مقدمها تحقيق حلم الأتراك في السيطرة على الموصل، ثمة دلالات أخرى في التاريخ العراقي الحديث تؤكد أن الاتراك يريدون السيطرة على المناطق النفطية في العراق، ومنها كركوك والموصل. وصرح أحمد داود أوغلو، عندما كان وزيرا للخارجية التركي عام 2009 عندما زار الموصل: «في يوم من الأيام دخل أجدادنا هذه المنطقة وهم يركبون الخيول، وسيأتي يوم نعود نحن إلى هذه المنطقة ولكن بمعدات حديثة»، وهذه ليست المرة الأولى التي يقتحم فيها الأتراك السيادة العراقية، فخلال العقود الماضية عندما كان الأكراد يخوضون حربا داخلية بين عامي 1994 و1996، دخل الجيش التركي شمال العراق بطلب من الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي؛ لدعم قوات زعيمه مسعود البارزاني، لكن القواعد العسكرية التركية في المنطقة بقيت موجودة حتى الآن ولم يكترث الأتراك بمطالبات حكومة إقليم كردستان العراق لإخلاء هذه القواعد.