كانت لحظات مكثفة مليئة بشتي المشاعر المتباينة من التحفز إلي التريث و المراجعة، ومن الشعور بالانتصار حتي و إن لم يتحقق ما بدأنا بطلبه، إلي هواجس دنو الهزيمة وإن نلنا فوق ما لم يبدو ممكنا. كانت هناك ملايين التفاصيل الصغيرة التي بات من الصعب الآن تبيانها في الصورة الكبيرة. كانت لحظات نادرة حين بدا أن صار لتلك المنطقة تاريخا له أحداث، و أبطالا لهم بطولات، وأن التقويم لم يعد بالأعوام والعقود والقرون.. غير أن من بين لحظات يناير السرمدية تلك لا أنسي ذلك المشهد الذي أفجعني وأيقظ كل هواجس تبعات الهزيمة في رأسي في لحظات عنفوان النصر. كان المشهد لشاب سكندري يرفع يديه الفارغتين في الهواء وهو يسير بهدوء، و ربما بنشوة، باتجاه أحد كمائن الأمن، وبينما هو يقترب من الكمين قام بحركة "الطيارة"، تلك الحركة التي اعتاد أن يؤديها اللاعب محمد أبو تريكة بعد تسجيل أهدافه، إلي أن غدا علي بعد خطوات من الضابط الذي يصوب نحوه السلاح، تفاجأت بصوت الرصاص كما تفاجأ الشاب وقت سقوطه. لا أدري بما شعر هذا الشهيد لحظتها، و لا ما دار برأسه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. لكني أذكر جيدا ما شعرت به، لم أشعر بالخوف قدر ما شعرت بالغدر، و ظني أن هذا الشاب شاركني ذات الشعور. كان ذلك قبيل رحيل مبارك بأيام، وكان من ارتكب الجريمة هو أحد ضباط الجهاز المهزوم الذي تواري عن الأنظار، غير أن ما أفزعني ليس مقتل الشاب وحسب، فقد خسرنا الكثيرين وقتها، لكن كيف تم قنصه من مسافة خطوتين وهو رافع يديه الفارغتين بانتصار أدرك أنه قد حققه لتوه، تماما كما أدرك قاتله. كان الرصاص الخارج من فوهة السلاح دلالة علي عدم تقبل من يحمل السلاح هزيمة قد وقعت به للتو، ربما لهذا شعرت حينها بالغدر. شيئا ما تغير مساء جمعة الغضب تلك .. لقد تغيرت قواعد اللعبة فور أن أدرك صاحب الحق الأصيل في حمل السلاح هزيمته أمام الأيادي الفارغة، ربما أدرك هذا متأخرا، لكن ما قام به من القنص بعد المعركة كان دلالة علي عزمه علي أن يصحح خطأه، غير أن الهزيمة كانت قد كبلت يديه، و أيادي العزل الفارغة كانت لا تزال تحاصره. حتي ذلك المساء كانت هناك قواعد للعبة، ليست مكتوبة أو حتي محل اتفاق للعب، لكنها كانت سارية بفعل تواطؤ متبادل بين من يحمل السلاح و ظهيره الشعبي أو ربما الطبقي في الحواضر المدينية. ربما كان مقتل خالد سعيد خرقا لقواعد لعبة التواطؤ تلك، ففي الأخير لا يجوز أن يتم معاملة ابن الطبقة الوسطي معاملة الحرافيش، و ربما كان هذا سببا في فزع الطبقة الوسطي المفاجئ من حوادث تعذيب الأقسام وقتها، بل و مشاركتها الفاعلة في احتجاجات ضد الشرطة. و ربما لهذا صار شهداء الطبقة الوسطي أيقونات للثورة، بينما توارت صور مئات الحرافيش الذين قضوا مقاومين . غير أن قواعد جديدة للعبة كانت تقتضي عدة أمور , أولها تعافي من يحمل السلاح من الهزيمة . كما كانت تقتضي اتفاقا جديدا مع ظهير يعيد صياغة الحدث، فيسمي الهزيمة مؤامرة , و يضفي علي تبعاتها صفات من المكر و الدهاء و التمجيد في قدرة مهزومين الأمس علي الصمود في وجه موجات الخيانة . لقد دخلت القواعد الجديدة حيز التنفيذ مبكرا، لكنها بدأت بالحلقات الأضعف . فأحداث كماسبيرو مذابح الألتراس لم تكن إلا شرعنة للقواعد الجديدة. و هي الحوادث التي صنعت الخطاب الجديد والقواعد الجديدة والظهير الشعبي المنتقي بعناية، حتي انتهي الأمر إلى أكوام جثث في الشوارع و الميادين وسط الأغاني والرقص والتصفيق وعرائض الإستحسان. قد يعجب البعض من أن صورة الضابط الذي يتخطي طابور المنتظرين في سياراتهم أمام محطة البنزين تنال قدرا أكبر من إهتمام الطبقة الوسطي المدينية عن خبر إطلاق سراح ضابط قتل 37 مواطنا في سيارة ترحيلات. هذا هو حال الطبقة التي عرّفت نفسها تاريخيا بأنها منتجة المعني والقيمة، والتي انتهت إلي مجموعات في أغلبها بلا معني وبلا قيمة . يمكننا أن نحرّض علي الثورة، وأن نملأ الأرض ضجيجا حول من يُقتلون ومن يُعذّبون . يمكننا أن نظل مستهلكين في حديث الصباح و المساء عن ممارسات الأمن وعن فساد النظام . يمكننا أن نستحضر أجواء ما قبل يناير أملا في يناير آخر , غير أننا لا نستطيع أن نكتب التاريخ علي هوانا , و لا أن نصنع ظروفا من إختيارنا , كما لا نستطيع أن نقفز علي خمسة أعوام تغيّرت فيها الأمور. لا يمكننا أن ندير ظهرنا للثورة، فهي مصدر إلهامنا و طريق خلاصنا. كما لا يمكننا التراجع أو الخوف وقد فات أوان ذلك علي أي حال، لكن علينا أن نتعلم من تجاربنا وأن ندرك أن ما صنع يناير لم تكن ممارسات النظام أو التحريض ضدها وحسب، و إنما صنعها الأمل، فلولا تونس ما كانت يناير ! لا مانع من العواقب و إن كانت وخيمة , و لا بأس من أن نحاول أن نعبر النفق و إن بدا ذلك مغالاة , لكن لا يمكننا أن نسوق الناس إلي حتفهم بلا روية و دون تلمس الطريق. و لا يمكننا أن نخوض معركة دون إمتلاك الأدوات المطلوبة لتحقيق الانتصار فيها،كما لا يمكننا التلويح بخيارات لا نملك متطلباتها، ناهيك عن تحمل تبعاتها! الثورة ليست مناسبة لتقديم القرابين قدر ما هي مناسبة لتلقف الحياة وتحيّن الفرص التي تستحق المقامرة .. هكذا فعل شهداءها الذين قضوا محاولين الحياة، و هكذا تُمجّد ذكراهم !