تثبت هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" في باريسوبيروتوسيناء من جديد أن هذا التنظيم ومفاعيله ليس مشكلة محلية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، تتعامل معها الدول الغربية من منطلق أمني احترازي بالإضافة إلى مدى تحقيق مكاسب سياسية، فحتى على هذا المستوى كان لوجود مئات من الأوربيين في صفوف التنظيم جرس إنذار لدول مثل فرنساوبريطانيا لأن يتخطى موقفهم التدقيق الأمني الداخلي ومتابعة وملاحقة مواطنيهم الذين يحملوا جنسيات هاتين الدولتين سواء بقوانين تجردهم من جنسيتهم وتمنع عودتهم أو ملاحقة المشهورين منهم، مثلما زعمت لندن بخصوص مقتل ذباح داعش الشهير ب"جون" في غارة جوية منذ أيام، إلى إجراء عسكري خارجي، خضع حتى الأن لحسابات سياسية متعلقة بمصالح هذه الدول من الأزمة السورية -التي أحد تجلياتها ظهور هذا التنظيم- فكل من حكومات لندنوباريس كان سلوكهم السياسي تجاه الأزمة السورية متعلق أكثر بمصالح السياسة الخارجية لهما أكثر من النظر إلى داعش كخطر وجودي على بلادهم، وحصره فقط كمتغير أمني وسياسي في منطقة الشرق الأوسط فقط وبالتالي بمدى خطورة التنظيم على مصالحهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، حتى أن هذا الأمر تُرجم في مشاركة فرنسا وانجلترا والعديد من الدول الغربية في التحالف الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة أتت من هذا المنطلق بالأساس مع عوامل ثانوية أخرى تتعلق على سبيل المثال بمسألة عناصر داعش الذين يحملون جنسيات غربية. إلا أن هذا الأمر يبدو أنه إلى تغير بحافز رئيسي متمثل في اعتداءات باريس الأخيرة وما لها من دلالات خطيرة على الصعيدين السياسي والأمني. الحرب على الإرهاب بين 11 سبتمبر و13 نوفمبر تشابهت خطابات الساسة الفرنسيين والأوربيين عامة على مدار اليوميين الماضيين، أصبح من العلني إعلان أن "على فرنسا أن تحدد سياستها الخارجية والداخلية على أنها في حالة حرب" حسب قول الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، كذلك كان فحوى خطاب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، في مؤتمر قمة العشرين المنعقد أمس في أنطاليا بتركيا، حيث تلميحه بتوسيع مشاركة بلاده في الغارات الجوية ضد التنظيم، وأن "يستعد البريطانيين لبعض الخسائر" في إشارة إلى احتمالية تعرض بلاده لهجمات مماثلة. هذا المناخ يعكس نية الدول الأوربية وفي القلب منها فرنسا وانجلترا على توسيع حربهم ضد داعش، وليس كما توقع البعض أن على إثر هذه الهجمات قد تفضل الدول الغربية الانسحاب وعدم الانخراط أكثر بإجراءات عسكرية ضد داعش وفي المنطقة بشكل عام. والسؤال هنا كيف تدير هذه الدول وغيرها المعنية بمواجهة داعش هذه الحرب التي من المناسب وصفها بالعالمية، سواء من حيث الكيفية العملياتية والتحالفات والاستراتيجيات المتعددة بالفعل، أو من حيث اختلاف الحرب على الإرهاب عن الحروب الاعتيادية؟ فمن البديهي أن الانتصار في الحروب التقليدية يكون عبر تحديد أهداف سياسية محددة وتحقيقها بقوة السلاح، سواء احتلال أو تحرير أو حتى تحريك، أما الإرهاب وحربه فأنه منذ 2001 وهي حرب ممتدة أفق نهايتها غير معروفة، والعدو المفترض يتخذ أطواراً مستمرة باطراد في مدى الخطورة والانتشار والتعقيد بسبب ظرف سياسي مثل الأزمة السورية، الذي جعل تنظيم "القاعدة" وفكره "معتدل" لدى البعض عن "الدولة الإسلامية". ناهيك عن كونها أهم أداة أعادت من خلالها قوى دولية وإقليمية تشكيل خارطة المنطقة حسب مصالحها؛ أقرب مثال لذلك غزو العراق وتبعاته وصولاً إلى الحرب السورية، وبينهما ظهور واستفحال داعش. الحرب الأميركية ضد الإرهاب، وبعيداً عما نتج عنها من كوارث إنسانية وسياسية حتى للأميركيين أنفسهم، لم تنتهي حتى الأن، بل أن اعتبارات النصر والهزيمة فيها متعلقة بأمور شديدة الرمزية كمسألة مقتل أسامة بن لادن، التي اعتبرتها الإدارة الأميركية "نصراً للشعب الأميركي" بعيداً عن كون الحادثة قد ساهمت في هزيمة الإرهاب أم لا؟ فطالبان والقاعدة وإن اضعفوا على مدار 15 عام من الملاحقة والتضييق، لم ينتهوا تماماً بل كان انحسارهم لحساب ماهو أخطر وأكبر، متمثلاً في داعش ومشروعه. ناهيك عن مدى التوظيف السياسي لمثل هذه التنظيمات، بما فيها داعش قبل انفلاته بإعلان "دولته" في تحقيق مصالح سياسية، جعلت من "القاعدة" ممثلة في "جبهة النًصرة" معارضة معتدلة لدى بعض الدول ومنها فرنسا حتى وقت قريب. تغير الأولويات..داعش خطر وجودي على الغرب الهجمات الأخيرة، وتواترها الزمني واتساعها الجغرافي والدول والجهات المستهدفة، تؤكد أن التنظيم شرع في استراتيجية جديدة الهدف منها خلق توازن ردع على أثر ما يتعرض له من ضربات عسكرية في سورياوالعراق، سواء من جانب روسيا ومحور المقاومة -الطائرة الروسية فوق سيناء، تفجير برج البراجنة في بيروت- أو من دول التحالف الدولي كفرنسا، الدولة التي شكلت الحلقة الأضعف والأقرب بحكم الجغرافيا و "موجة النزوح التي شتت جهود الأمن الداخلي في مراقبة ومتابعة المتطرفين" بحسب كورتسي ويل ماككنتس، زميل معهد واشنطن ومؤلف كتاب "دينونة داعش" في حوار له أمس مع صحيفة واشنطن بوست. وعلى أن الضربات الثلاثة تأتي في سياق استراتيجي واحد للتنظيم، إلا أن هجمات باريس لها أهمية خاصة، حيث أستطاع التنظيم ولأول مرة تنفيذ هجمات خارج بيئته والمنطقة بشكل عام، وهي المرة الأولى أيضاً التي يكون فيها الهجوم قائم على تراتبية المركز والتخطيط المركزي وليس من عناصر محليه تعتنق نفس الفكر ولكنها غير مرتبطة بشكل عضوي بالتنظيم، وقبل هذا وذاك هي الأكبر التي تستهدف فرنسا منذ سنوات طويلة، وتأتي تصديقاً لتهديد التنظيم بالرد على الغارات التي يتعرض لها في قلب أوربا. على الجهة المقابلة، بدأت فرنسا مساء أمس سلسلة من الغارات الجوية على مدينة الرقة معقل التنظيم، وبحسب بيان وزارة الدفاع الفرنسية فأن الطائرات التي من المحتمل أن تكون قد انطلقت من الأردن استهدفت مركز قيادة ومركز تدريب بنحو عشرين قنبلة، وذلك في أول رد عسكري على الهجمات الأخيرة. وفيما يخص هذا يجدر الإشارة أنها ليست المرة الأولى التي تقوم فيها فرنسا بقصف أهداف لداعش، فقبل هجمات باريس شنت طائرات فرنسية غارة على مواقع نفطية يسيطر عليها داعش في مدينة دير الزور في الخامس من الشهر الجاري، وسبق هذا قرار الحكومة الفرنسية توجيه حاملة الطائرات "شارل دي جول" للمشاركة في عمليات القصف الجوي للتحالف الدولي في سوريا، لكن بعد غارات الأمس وكيفيتها المتطورة كماً وكيفاً والتي تأتي كرد فعل انتقامي للحكومة الفرنسية على هجمات باريس، فيمكن اعتبار هذه الغارات بداية لتحول في رؤية الدول الأوربية وفرنسا خاصة، من الموقف السابق أعلاه تجاه داعش إلى التعامل مع التنظيم كخطر وجودي. هذا الأمر لخصه كاميرون أمس بقوله أن "أمان بريطانيا يعتمد على تدمير داعش"، سبق الرئيس الفرنسي بتصريحات أول أمس في نفس السياق، وكذلك عدد من الزعماء الأوربيين في مؤتمر قمة العشرين الذي بدأ أمس وتصدرت هجمات باريس مشهده بطبيعة الحال. وفي نفس السياق، نجد أن هناك متغير أو بالأحرى إعادة ترتيب أولويات أوربية فيما يتعلق بمواجهة التنظيم، الذي كان يُربط مواجهته –على استحياء- من قِبل باريسولندن، بمحاور الخلاف الأساسية الخاصة بالأزمة السورية، من مسألة رحيل النظام السوري، وماهية المعارضة المعتدلة، واشتراط أن يتم محاربة داعش بالتوازي مع محاربة الجيش السوري، وهو ما جعل "المعارضة المعتدلة" تشمل تنظيم "جبهة النُصرة" الذي رأى وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، العام الماضي أنه يقوم بدور "جيد" على المسارين السابقين. هذا المتغير ينبع من سعي داعش لخلق توازن ردع يضع الضربات العسكرية ضده أمام هجمات إرهابية في قلب هذه الدول ضد مواطنيها، هذه المعادلة الصفرية التي يحاول التنظيم فرضها، تجعل الدول المعنية وخاصة الأوربية تغير طريقة تعاملها مع التنظيم كخطر بعيد جغرافياً وعلى مصالحها السياسية والاقتصادية فقط، إلى خطر أمن قومي عليها داخل أراضيها، وهو الأمر الذي تنبهت إليه روسيا مبكراً في الإعداد وتنفيذ اجراءتها العسكرية في سوريا، التي كان من دوافعها الأساسية خوض معركة حتمية ضد خطر على الأمن القومي الروسي متمثل احتمالية تمدد داعش خارج نطاق الشرق الأوسط إلى أراضي روسيا ومحيطها الحيوي خاصة وأن اعتماد التنظيم على جنسيات دول الاتحاد السوفيتي السابق تأتي في المرتبة الثانية بعد جنسيات الشرق الأوسط من حيث العدد والترتيب الهرمي. خيارات فرنسا والغرب وعلى المنوال نفسه، فإن النجاح النسبي الذي حققته الإجراءات الروسية العسكرية الأخيرة من حيث تحجيم خطر داعش، وقبل ذلك بالطبع استراتيجية محور المقاومة في التصدي للتنظيم في العراقوسوريا ولبنان، يؤدي بالضرورة إلى إعادة النظر في الاستراتيجية الأميركية وقيادة إدارة أوباما للتحالف الدولي ضد داعش، سواء من حيث تناقضات دول حليفة كتركيا والسعودية والتي يستفيد منها داعش في تمدده وبقاءه، أو لتتضاءل انجاز الاستراتيجية الأميركية أمام مثيلاتها الإيرانية والروسية على التوالي، حيث أن الأخيرتان في العراقوسوريا ولبنان نجحوا فيما فشلت فيه الاستراتيجية الأميركية والتحالف الغربي، لاعتبارات تكتيكية أو جيوستراتيجية، أو لأن موسكو وطهران نظروا منذ البداية إلى داعش وأخواتها كخطر وجودي وتهديد لا فرصة استثمار سياسي مُستغلة على مدار الثلاثة أعوام الماضية. في المحصلة، هناك بالتأكيد متغيرات ستطرأ على مواقف الدول الأوربية وفي القلب منها فرنسا بخصوص خطر تنظيم "الدولة الإسلامية"، فالغارات الفرنسية أمس يمكن اعتباراها بداية تبلور هذه المتغيرات، حيث تشير الدلالات السابقة الذكر وغيرها أن الغارات الفرنسية لن تقتصر على كونها رد انتقامي مباشر مثلما فعلت مصر ضد داعش بعد قتل الأخير لمصريين في ليبيا أو الأردن بعد مقتل الطيار معاذ الكساسبة، وشن البلدين غارات ضد أهداف التنظيم في ليبيا والعراق، بل ستمتد إلى ما يتجاوز حتى ضرب التنظيم عن طريق الغارات الجوية وتكثيفها. وهنا يوجد ثلاثة اختيارات رئيسية إذا أرادت الدول الأوربية وعلى رأسها فرنسا فعلاً مواجهة التنظيم بغرض القضاء عليه: أولهما الاتجاه للتعاون مع دول المنطقة عسكرياً واستخباراتياً، وهذا بالفعل يحدث مع الأردنوالعراق –حكومة بغداد أو كردستان العراق- حيث أن الأولى تنطلق منها الطائرات الفرنسية المغيرة على مواقع داعش بعد وقبل هجمات باريس، والثانية أمدت فرنسا بمعلومات استخباراتيه عن نية داعش شن هجمات في الداخل قبل الحادث بأيام. وثانيها توسيع دعم مجموعات على الأرض –من الأكراد مثلاً- لمحاربة داعش حصراً، طبقاً للأولويات المستجدة، وتوسيع قنوات تعاون أمني وعسكري مع كل من إيرانوروسيا. وثالثهما يجمع ما بين السابقين، وهو في هذه الحالة يفتح احتمالات كثيرة على كافة الأصعدة، سواء فيما يخص التناقضات داخل التحالف الدولي واعتماد كل دولة على استراتيجية خاصة بها تنفذها بطريقتها ولمصلحتها وما يتقاطع ذلك مع مصالح دول في المنطقة، أو يتناقض معها، مثل تركيا التي لا تبدو منذ الأن متساهلة أمام الانفتاح الغربي لدور كردي مستقبلي في مواجهة داعش وفي المنطقة ككل. على النقيض، يبدو أن مسألة الرد الانتقامي الآني مستبعدة، على الرغم من وجاهة الأسباب التي تدعمها ، مثل إمكانيات فرنسا العسكرية والاقتصادية وعدم قدرتها على شن حرب خارجية طويلة الأمد، إلا أن الظرف الموضوعي الأن في المنطقة وأوربا والعالم يسمح بفرصه أكبر لمواجهة حقيقية للتنظيم الإرهابي، حيث القناعة التي تتبلور حديثاً لدى صناع القرار في الغرب أن التنظيم كخطر وجودي لا تصلح مع الطريقة التي انتهجتها الدول الغربية وفي القلب منها فرنسا مع ظاهرة داعش منذ بدايتها وحتى هجمات باريس. موضوعات متعلقة: