خلال شهر واحد، وفي سلسلة هجمات إرهابية أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" مسئوليته عنها، سقط ما يتجاوز 500 ضحية في حادث تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء، وتفجيرات برج البراجنة في الضاحية الجنوبية في بيروت، وأخيراً في سلسلة الهجمات المسلحة والتفجيرات التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس في الساعات الأخيرة من ليل أمس. الهجمات الإرهابية بتواترها الزمني القريب وتأثيرها الجسيم من حيث الخسائر البشرية، كذلك المدى المكاني الذي يتسع باطراد إلى قلب أوربا يشير ببديهية إلى أن تنظيم "الدولة الإسلامية" يهدف إلى التأكيد على بقاءه وتمدده على الرغم من الضربات التي تُكيل له منذ العام الماضي في سوريا والعراق، التي ساهمت في انحساره جغرافياً في نطاق البلدين، مروراً بغارات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، وصولاً إلى العمليات العسكرية الروسية في سوريا والعراق على مدار الشهرين الماضيين. وفيما يبدو أن التنظيم لجأ إلى استراتيجية قديمة إزاء السابق، ينفذها بتكتيكاته المستحدثة وفق رؤية سياسية قابلة للتطور، بداية من استيعاب الضربات العسكرية بكافة مستوياتها وبمختلف الجهات المسئولة عنها في بيئته الأساسية في سوريا والعراق، إلى محاولة موازنة ذلك بامتداد خارجي يستهدف رفع روح معنوية ودحض دعائية بداية نهاية "الدولة الإسلامية" وكذلك السعي إلى التوسع الأفقي من باكستان إلى شمال أفريقيا بشكل لا مركزي قائم على مبدأ انضمام تنظيمات جهادية محلية مُشكلة حديثاً أو كانت تتبع القاعدة ل"دولة الخلافة"، أو حتى على مستوى الأفراد في مختلف دول العالم فيما يُعرف بظاهرة "الذئاب المتوحدة"، وأخيراً مرحلة الرد والهجوم المضاد، بهجمات إرهابية غير تقليدية في مداها الزمني والمكاني، تكاد تقارب في هجمات أمس العمل الحربي المتكامل. هجمات داعش الأخيرة تأتي بفارق أيام عن ضربات عسكرية ضد التنظيم في سوريا، سواء ما يتعلق بمعركة تحرير حلب ومشاركة حزب الله فيها بجانب الجيش السوري، أو الضربات العسكرية الروسية المؤثرة في مختلف المناطق في سوريا، أو غارات الطيران الفرنسي على البنية التحتية النفطية لداعش في دير الزور بسوريا أوائل الشهر الجاري، وإعلان فرنسا عن نيتها المشاركة بفاعلية في غارات التحالف الدولي وتوجيه حاملة الطائرات "شارل دي جول" للمشاركة في عمليات جوية ضد داعش في سوريا. وهنا نجد بالتوازي هجمات تستهدف لبنان وتحديداً حزب الله في قلب الضاحية الجنوبية ببيروت، وقبل ذلك تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء، وأخيراً هجمات باريس يوم أمس. قبل هذا وذاك ينبغي إلقاء الضوء على فهم واستغلال تنظيم "الدولة الإسلامية" لتعقيدات المشهد السياسي العالمي، الذي هو جزء رئيسي منه، ومدى استفادته من التناقضات السياسية بين الدول المعنية سواء على مستوى إقليمي ودولي، وكيفية حصد أكبر مكسب ممكن. وهذا ليس بالجديد على هذا التنظيم الذي نشأ واستفحل وتمدد على إثر توظيف التناقضات واللعب عليها وخاصة المتعلقة بسوريا والعراق، فبداية دور وظيفي لتنفيذ أهداف سياسية تراعها قوى دولية وإقليمية في البلدين سابقي الذكر، إلى امتلاك مشروع خاص متمثل في "دولة الخلافة" قائم على موارد قوة عسكرية واقتصادية نواتها الأولى الدعم الغير محدود عسكرياً واقتصادياً الذي تدفق على خلفية السيولة الأمنية والسياسية في سوريا والعراق، التي وفرت بيئة ازدهر فيها التنظيم في مرحلته الأولى لتشكل الحاضنة الرئيسية، والتي منها تنطلق كافة محاولات التمدد والبقاء. فعلى سبيل المثال كان التمدد لسيناء بالنسبة للتنظيم مهرب إلى الأمام من الضربات العسكرية التي شُنت ضده منذ أواخر العام الماضي في سوريا والعراق بمعرفة وتنفيذ محور المقاومة والجيش العراقي، كما استمر الحال على نفس المنوال بالنسبة لضربات التحالف الدولي بمراحله المتتالية، فكانت سيناء ساحة جديدة لها مؤهلات التمدد من حواضن وجماعات جهادية موجودة بالأساس ما لبثت أن انتقلت بطفرة نوعية بعد مبايعة التنظيم إلى شن عمليات دقيقة ومؤثرة كماً وكيفاً. ثم تلا ذلك الرد على أي ضربات عسكرية ضد التنظيم في سوريا والعراق في أجواء سيناء باستهداف الطائرة الروسية، التي كانت بمثابة عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يدحض التنظيم مسألة الإجهاز عليه في سيناء بالكامل، كما في نفس الوقت يرد على الضربات العسكرية الروسية باستهداف مدنيين روس في عملية تفجير الطائرة، وهو الأمر الذي يشكك في واقعية الدافع الرئيسي للتدخل العسكري الروسي في سوريا والذي يكمن في أن موسكو رأت أن محاربة الإرهاب في سوريا والعراق حالياً أفضل من مواجهته مستقبلاً في مجالها الحيوي أو حتى داخل أراضيها. استراتيجية الرد الداعشية هذه استمرت أيضا في لبنان، حيث استهداف المدنيين في الضاحية الجنوبية حيث تمركز حزب الله وجمهوره، على إثر مشاركة الأخير في الانتصارات العسكرية الميدانية الأخيرة في سوريا، فتفجيرات الضاحية الجنوبية بعيداً عن خستها كما حادثة الطائرة الروسية وهجمات باريس باستهداف الابرياء المدنيين، توضح نظرة التنظيم الإرهابي لجبهة الأعداء، الذين في نظره وبالحد الأدنى مستباحين سواء مدنيين أم لا بشكل يستهدف رد الصاع صاعين على خطوات حزب الله وروسيا وفرنسا ضد التنظيم في سوريا والعراق، باستهداف مصالح هذه الجهات وضرب جبهاتها الداخلية إن أمكن، ولكن بالنسبة للبنان وخصوصيتها السياسية والاجتماعية، والاستقطاب السياسي والطائفي فأن الضاحية كان يستهدف التنظيم من وراءه كما كان يحاول منذ بدء هذا النوع من الهجمات قبل ما يزيد عن عامين أن يتم إشعال أزمة سياسية وأمنية في لبنان عامة وفي بيئة حزب الله خاصة تستهلك الأخير في الداخل مما يشتت مشاركته في سوريا. أما فرنسا وسياستها التي تدور في حلقة مفرغة من تأييد الإرهابيين تحت أسم "الثورة" في سوريا إلى المفاضلة بينهم واعتبار بعضهم بما فيهم "جبهة النصرة" التابعة لتنظيم القاعدة "معارضة ثورية"، نهاية بقرار المشاركة في التحالف الدولي ضد داعش حصراً خاصة بعد حادثة "شارلي إبدو" وتفاقم خطر الجهاديين الفرنسيين واحتمالية عودتهم إلى بلادهم، وكذلك محاولة إيجاد موطئ قدم في حل وشيك للأزمة السورية وإعادة تقسيم كعكة النفوذ في الشرق الأوسط، الذي قال عنه رئيس المخابرات الفرنسية، برنار باجولية أنه "انتهى بصورته وحدوده المعهودة"، فما كان من الأخيرة لكل هذه الاعتبارات والعوامل إلا أن تذهب في اتجاه تعزيز مشاركتها في التحالف الدولي على النحو السابق ذكره باستهداف بنى داعش التحتية الاقتصادية وعلى رأسها النفط قبل خمسة أيام، وفتح الباب أمام مزيد من الضربات العسكرية في المستقبل في سوريا تحت عنوان استهداف التنظيم الإرهابي، الذي رد على هذا بهجمات أمس التي سقط بها عشرات المدنيين الفرنسيين، في ظرف داخلي وأوربي يميل أكثر نحو اليمين فيما يتعلق بالموقف من النازحين، وبعبارة الرئيس الفرنسي السابق، وزعيم حزب الجمهوريين اليميني نيكولا ساركوزي، في مؤتمر صحفي اليوم أن "على بلاده اعتبار نفسها في حالة حرب في سياستها الخارجية كذلك في سياستها الداخلية والأمنية على وجه التحديد"، وهو بطبيعة الحال مرشح بسهولة لأن يكون موقف أوربي شامل وليس فرنسياً فقط، على اعتبار نجاح التنظيم في مهاجمة قلب أوربا، مما يعني إخفاق السياسة الخارجية والأمنية الأوربية المتعلقة على وجهة الخصوص بتنظيم "الدولة الإسلامية" والمتغيرات التي أحدثها على مستوى المنطقة والعالم. وعلى هذا المنوال، نجد أن هجمات داعش الأخيرة خارج نطاق بيئته الرئيسية، في سيناء والضاحية الجنوبية وباريس ليست فقط ردود فعل آنية تأتي في سياق استراتيجية الاستيعاب والتوازن والرد التي ينفذها فقط، ولكنها أيضاً ممارسة الإرهاب من أجل تحقيق ومفاقمة تناقضات إقليمية ودولية عاش التنظيم وترعرع بسبها. أي باختصار التعاطي الإقليمي والدولي مع ظاهرة تنظيم "الدولة الإسلامية" منذ بدايتها يحتاج إلى طفرة مماثلة لما حدثت في التنظيم من حيث الرؤية والاستراتيجية بُنيت على أساس استيعاب التنظيم للمشهد والمتغيرات السياسية والإقليمية، وليس كما كان تنظيم "القاعدة" يفعل من منطلق عقائدي ايدولوجي ويهمل الرؤية السياسية، وهو ما تسبب في نهاية الأمر على اندثاره لحساب "الدولة الإسلامية". كمحصلة عامة، يدرك التنظيم الإرهابي المشهد السياسي على المستويين الإقليمي والدولي جيداً، ويعي تماماً ما يحدث من متغيرات على مسارات التعاطي الدولي والإقليمي تجاهه، كذا مسارات السياسة الدولية وتناقضات القوى الدولية والإقليمية الحالية سواء الداخلية أو الخارجية، والأخيرة في معظمها تتعلق بالتنظيم وبالأزمة السورية ككل، في محاولة استثمار هذه التناقضات في استمرار التأكيد على آلية وجوده، التي يلخصها شعار "باقية وتتمدد". موضوعات متعلقة: