عشرات الكتب سجلت ووثقت علاقة محمد علي باشا بالجمهورية الفرنسية، وعشرات من الكتب وثقت علاقة الخديوي إسماعيل بالجمهورية الفرنسية، وكذا علاقة مصطفي كامل، بالدولة الفرنسية، ثم جاء الزعيم جمال عبد الناصر، ليفتح آفاقا جديدة مع فرنسا و«شارل ديجول» رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق، إلى أن جاء الرئيس عبدالفتاح السيسي، ليفتح آفاق آخرى جديدة بتوقيع إتفاقية شراء مصر لحاملتي الطائرات مسيترال، وكان قد سبقها صفقة شراء الثلاث طائرات ال«رافال» المقاتلة الفرنسية التي شاركت في حفل افتتاح قناة السويس. لذا ليس من الغريب أو من الصدفة أن ينظم كل من المركز الثقافي الفرنسي، و مركز الشرق الأوسط للدراسات بالجامعة الأمريكية، ودار الطناني للنشر والتوزيع، أمسية لتكريم «إريك رولو» الصحفي والدبلوماسي الفرنسي، بمناسبة صدور الترجمة العربية لمذكراته «في كواليس الشرق الأوسط.. مذكرات صحفي في جريدة لومند»، أمس الثلاثاء، والتي شارك فيها السفير «نبيل فهمي»، وزير الخارجية السابق، و«الأخضر الإبراهيمي» الدبلوماسي الجزائري، ومؤلف مقدمة النسخة العربية لمذكرات إيريك رولو، و«آلان جريش» الصديق المقرب لإيريك رولو ومؤلف مقدمة النسخة الفرنسية، و«مصطفى الطناني» مدير دار الطناني للنشر. هذا الكتاب يكشف فيه الكاتب الكبير عن علاقته الشخصية مع الزعيم جمال عبد الناصر، والكتاب يتعلق بأحداث فترة مهمة من حياة العرب، وتحتل أحداث مصر مكان الصدارة طوال الكتاب، وكذلك القضية الفلسطينية، وعلاقة الفلسطينيين بالإسرائيليين منذ قيام دولة إسرائيل فى 1948، والمؤلف برغم أنه يهودي، يتعاطف بشدة مع الفلسطينيين، وينتقد السياسة الإسرائيلية بقوة، حيث كتب عالم الاقتصاد والأكاديمي المصري الدكتور جلال أمين، مقالا عن هذا الكتاب بعنوان «إيريك رولو صديق جمال عبد الناصر» تحدث فيه عن شخصية الكاتب وعلاقته بالقضية الفلسطينية والزعيم «عبد الناصر». الكاتب «المصري» الفرنسي غادر «رولو» ذو الأصول المصرية عالمنا فى الخامس والعشرين من فبراير الماضي، هو أحد ألمع صحفيى القرن العشرين فى فرنسا والعالم، واسمه الحقيقى الذى وُلد به فى القاهرة، «إيلى رافول» اتجه إلى العمل فى الصحافة وهو في شن مبكر، وبالتوازى مع عمله كان يدرس فى كلية الحقوق فى جامعة القاهرة، وبالفعل نال حظًّا من التوفيق عندما اختار رئيس تحرير جريدة «الإجيبشيان جازيت» موضوعًا له ليتصدّر موضوعات الصفحة الأولى، لينطلق فى طريق الصحافة بلا عودة. كان أبوه يهوديا، ولكنه يصفه بأنه كان «يؤيد علمانية الدولة، والاندماج الكامل للمواطنين اليهود فى وطنهم، وبناء عليه كان مناوئا لجميع صور القومية اليهودية»، ولد «رولو» فى عام 1926، ومن ثم فهو ينتمى الى ذلك الجيل من المثقفين الذين جذبتهم الأفكار الماركسية وتعاطفوا مع التجربة السوفيتية، وكانوا يفسرون ما يصل عن هذه التجربة من أخبار وإشاعات بأنه مجرد دعاية غربية أو رأسمالية ضد تجربة إنسانية وتقدمية. قبل ثورة يوليو 1952 كان عليه أن يغادر مصر فى ظل الملكية منفيًّا، نظرًا إلى مواقفه الثورية، وتزايد دوره فى النضال السياسى كمصرى منذ إنشاء اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وعانى فى بداية وجوده فى فرنسا من البطالة، إلى أن وجد عملًا فى وكالة الأنباء الفرنسية، وكان يستمع إلى الإذاعات العربية بحكم معرفته للغة العربية، وكان أوّل ما نقل محاولة اغتيال جمال عبد الناصر سنة 1954، وبعد أن بدأ فى التعاون مع صحيفة اللوموند قيّد له أن ينال فرصة ذهبية بتصدُّر موضوع له فى الصفحة الأولى تحت عنوان «القاهرة تؤكّد.. سد أسوان سيُقام رغم كل شىء». كان أول مَن أعلن خبر تأميم قناة السويس، ولأنها كانت خطوة جريئة غير مسبوقة فى العالم الثالث تلكّأت الوكالة الفرنسية فى بثّ الخبر لصعوبة تصديقه، وقتها بدأ الفتى يتألَّق فى المشهد الصحفى الفرنسى، ليُصبح فى ما بعد أحد أعمدة صحفيى اللوموند. حسّه الصحفى كان يستبق به إلى موقع الحدث، ففى المنطقة العربية -على سبيل المثال- وُجد فى القاهرة فى يونيو 1967، وفى الأردن فى أثناء مذابح الفلسطينيين، والقاهرة مرة أخرى وقت وفاة جمال عبد الناصر، ومن مفارقات السياسة كراهية إسرائيل له، واعتباره يهوديًّا مسكونًا بكراهية الذات، أما من مفارقات الحياة أنه عندما ذهب إلى المنزل الذى عاش به فى القاهرة، واستقبله السكان الجدد بترحاب ولطف، ويعرّفونه أنهم فلسطينيون. وقع الاختيار على «رولو» من قبل الزعيم «عبدالناصر» ومستشاره الصحفى الكاتب «محمدهيكل» كى تتم دعوته لزيارة مصر وإجراء حديث مع «عبد الناصر»، لأن النظام المصرى كان يريد أن يفتح مسارًا لبناء علاقة جديدة مع فرنسا ديجول ، وكان سبب اختيار «رولو» أنه يتّسم بمواقف تقدمية مناصرة للمواقف التحررية فى العالم الثالث، ويمثّل أهم الجرائد فى فرنسا والعالم، وقُبلت الدعوة المصرية التى حملها إلى باريس صحفى الأهرام اليسارى، لطفى الخولى، وبعد حضور رولو إلى مصر مع زوجته. في عام 2012 نشرت جريدة الأهرام المصرية في 3 أعداد متتاليه سلسلة بعنوان «مذكرات إريك رولو أشهر صحفي ودبلوماسي فرنسي» بعد أن منح «رولو» الأهرام حقوق نشر كتابة الجديد، في الحلقة الاولي بدأ «رولو» الحديث عن استقبال عبد الناصر له، وتحدث عن السر وراء ذلك ولماذا خصه هو دون الصحفيين الغربيين بهذه المقابلة، وكتب التفاصيل الدقيقة لهذا الحوار وأسئلة «عبد الناصر» له واهتمامه بحياته الشخصية وكيف حصل علي مسكن بالقرض في باريس، ثم يكشف سر المقابلة، بأن عبدالناصر أراد أن يبلغ العالم بخبر الإفراج عن المعتقلين السياسيين، ثم يعرج «رولو» في الفصل الاول الي قصة الوحدة مع سوريا والي مشروع الوحدة مع بغداد، وكيف فتحت مصر أبوابها للاجئين السياسيين من كافة أنحاء الوطن العربي. في الحلقة الثانية التي نشرتها «الأهرام» بعنوان «الصراع مع أمريكا والتوجه شرقا» يقول «رولو» إنه تحدث مع الرئيس «عبدالناصر» عن السجناء السياسيين والوحدة مع سوريا، وكانت الحلقة الثالثة والأخيرة بعنوان «سر الخديعة في حرب الأيام السته» وتحدثت عن المنعطف الخطير الذي مرت به مصر عقب رفض واشنطن تمويل السد العالي الذي أعقبه العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956، وأسرار حرب 1967 والدور الذي لعبته الولاياتالمتحدة لدعم إسرائيل، وعملية الخداع الكبري التي قامت بها واشنطن والاجواء المحمومة التي سادت إسرائيل في تلك المرحلة، قبل وفاته بيومين فقط وقع «رولو» عقدًا لنشر مذكراته باللغة العربية لدار الطنانى للنشر والتوزيع فى مصر.