غادر عالمنا فى الخامس والعشرين من فبراير الماضى الصحفى الفرنسى الكبير والدبلوماسى ذو الأصول المصرية، إريك رولو، (1926- 2015)، أحد ألمع صحفيى القرن العشرين فى فرنسا والعالم، واسمه الحقيقى الذى وُلد به فى القاهرة، إيلى رافول، وهو مِن نوعية البشر الذين يُدركون مبكرًا أهدافهم فى الحياة، وكانت أولى خُطواته التى تعكس هذه الصفة فى سن السابعة عشرة عندما رفض العمل بمرتب مُجزٍ، واتجه إلى العمل فى الصحافة، وبالتوازى معه كان يدرس فى كلية الحقوق فى جامعة القاهرة، وبالفعل نال حظًّا من التوفيق عندما اختار رئيس تحرير جريدة «الإجيبشيان جازيت» موضوعًا له ليتصدّر موضوعات الصفحة الأولى، لينطلق فى طريق الصحافة بلا عودة، وعندما التحق بأحد تنظيمات الشبيبة اليهودية، هاشومير هاتسعير، ذى التوجه الماركسى المتطرّف واستمر به سنة، وغادره بعد أن أدرك بحسّه النقدى طبيعته المتطرّفة، ولم يقبل انطلاقًا من الواقع الذى يعيشه ادِّعاء أن المصريين يعادون السامية، وكان متمسكًا بالبقاء فى وطنه، ويرى أنه لا علاقة بين الدين والمواطنة. وقبل ثورة يوليو 1952 كان عليه أن يغادر مصر فى ظل الملكية منفيًّا، نظرًا إلى مواقفه الثورية، وتزايد دوره فى النضال السياسى كمصرى منذ إنشاء اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وعانى فى بداية وجوده فى فرنسا من البطالة، إلى أن وجد عملًا فى وكالة الأنباء الفرنسية، وكان يستمع إلى الإذاعات العربية بحكم معرفته للغة العربية، وكان أوّل ما نقل محاولة اغتيال جمال عبد الناصر سنة 1954، وبعد أن بدأ فى التعاون مع صحيفة اللوموند قيّد له أن ينال فرصة ذهبية بتصدُّر موضوع له فى الصفحة الأولى تحت عنوان القاهرة تؤكّد.. سد أسوان سيُقام رغم كل شىء . كان أول مَن طيّر خبر تأميم قناة السويس، ولأنها كانت خطوة جريئة غير مسبوقة فى العالم الثالث تلكّأت الوكالة الفرنسية فى بثّ الخبر لصعوبة تصديقه، إلى أن بدأت مصادر أخرى فى الإعلان عنه، وقتها بدأ الفتى الذى تعلَّم مهنة الصحافة فى الإجيبشيان جازيت فى القاهرة، يتألَّق فى المشهد الصحفى الفرنسى، ليُصبح فى ما بعد أحد أعمدة صحفيى اللوموند . ولأن جمال عبد الناصر كان قارئًا من العيار الثقيل ولديه مستشار صحفى يطلّ جيدًا على المشهد الصحفى العالمى، وقع الاختيار على إريك رولو، كى تتم دعوته لزيارة مصر وإجراء حديث مع عبد الناصر، لأن النظام المصرى كان يريد أن يفتح مسارًا لبناء علاقة جديدة مع فرنسا ديجول ، حيث كان جمال معجبًا بمواقفه وشخصيته، ولم يكن يدرى أن ديجول يبادله نفس الإعجاب، وكان سبب اختيار رولو أنه يتّسم بمواقف تقدمية مناصرة للمواقف التحررية فى العالم الثالث، ويمثّل أهم الجرائد فى فرنسا والعالم، وقُبلت الدعوة المصرية التى حملها إلى باريس صحفى الأهرام اليسارى، لطفى الخولى، وبعد حضور رولو إلى مصر مع زوجته، دعاه هيكل إلى تناول العشاء فى لقاء حميم حضره لطفى الخولى، وشمل الزوجات، ليُبلغ هيكل أنه بعد اللقاء سوف يكتب ما يراه من وجهة نظره موضوعيًّا، وأنه لن يتجاهل السؤال عن مئات المعتقلين من اليسار المصرى، وأدرك هيكل بطبيعة حسِّه الصحفى أن هذا التوجه الصريح من رولو سوف يُنتج موضوعًا قيّمًا تتحقق به الغاية. أبدى رولو فى حلقات عديدة أُجريت معه منذ سنوات فى قناة روسيا اليوم انطباعًا عن أول لقاء له مع عبد الناصر الذى استقبله فى بيته، حيث لفت نظره بشدة أن البيت عادى وبسيط فى أثاثه، لا يحمل أى مظاهر للفخامة أو الثراء، ونوّه بأن ناصر هو الذى بادره بالسؤال عن تفاصيل كثيرة حول الحياة فى فرنسا، وأنه أبدى اهتمامًا بإمكانية شراء وحدة سكنية بالتمليك على عشرين سنة، وهو ما طبّقه بمصر فى المساكن الشعبية بقسط شهرى كان يبلغ جنيهًا واحدًا، وأشار رولو إلى أنه عرف مِن الذين قابلوا ناصر مثله أنه شغوف بالتعرّف على تجارب الدول الأخرى، لأنه مهموم بقضايا العدل الاجتماعى وتطوير بلده. كانت حلقات رولو فى روسيا اليوم غاية فى الثراء، وفات على فضائيات الإعلام المصرى والعربى المشغولة بالتفاهات والموحولة فى عدم المهنية أن تستضيف هامة كبيرة مثله، أما فى الحوار الذى نُشر فى لوموند فقد كان المانشيت ناصر يُفرج عن المعتقلين السياسيين خلال شهر ، لكنه لم يكن يعرف وقتها لا هو ولا غيره أن السبب هو تلافى الإحراج عند زيارة خروشوف لمصر. فى أثناء عمله الصحفى كان سبَّاقا فى وجوده بأماكن الأزمات الملتهبة والصراعات المشتعلة، يغطِّى الأحداث بشجاعة واقتدار، ومِن المفارقات المهنية أن حسّه الصحفى كان يستبق به إلى موقع الحدث، ففى المنطقة العربية -على سبيل المثال- وُجد فى القاهرة فى يونيو 1967، وفى الأردن فى أثناء مذابح الفلسطينيين، والقاهرة مرة أخرى وقت وفاة جمال عبد الناصر، ومن مفارقات السياسة كراهية إسرائيل له، واعتباره يهوديًّا مسكونًا بكراهية الذات، أما من مفارقات الحياة أنه عندما ذهب إلى المنزل الذى عاش به فى القاهرة، واستقبله السكان الجدد بترحاب ولطف، ويعرّفونه أنهم فلسطينيون، أما آخر المفارقات فهو توقيعه قبل وفاته بيومين عقدًا لنشر مذكراته باللغة العربية لدار الطنانى للنشر والتوزيع فى مصر التى وُلد وتعلَّم بها.