لي صديق قديم يعمل في جهة أمنية جمعتنا على مر عقود ظروف وتجارب لم تترك في نفسي مجالاً للشك تجاه سلامة نواياه ومقاصده. دار بيننا الحوار مؤخراً عن الأوضاع الراهنة. وبعد السلامات والتحية وتبادل الأسئلة عن الحال والأحوال بادرني صديقي بسؤال قائلاً: عندك شك إني بأخاف على مصر؟ فأجبت: بالقطع لا.. فقال: إنت عارف أنا بأشتغل فين وعارفني وأنا عارف إنك عارف إن أنا شايف الأوضاع من زاويا إنت مش شايفها، صح؟ فأجبت: عداك العيب يا “شقيق”. فقال: أنا مش حأقدر أخوض في تفاصيل بس إنتم صعبانين عليا لأنكم ناس نضيفة وشريفة ومش عايزين حاجة غير الخير لينا كلنا.. وطلباتكم هي طلبات الغالبية العظمى مننا سواء كانو فاهمين “أهل التحرير” أو مش فاهمينهم لسه.. بس إنت مش شايف الزوايا التانية. إنتم بيستغلكم ناس مندسين من داخل وخارج مصر ليهم أغراض دنيئة ومن مصلحتهم إثارة الفوضى لتعطيل المسار الديموقراطي لتحقيق العدالة والحرية والكرامة إللي هي مطلبنا كلنا.. إنت لو تعرف كم المصايب إللي إحنا بنكتشفها كل يوم شعرك حيشيب كله في كام يوم. فسألته: طب وإيه المطلوب مني؟ فأجاب: المطلوب إنك تدعو إلى التهدئة والصبر.. وأهي هانت.. يا أخي المجلس إرتكب أخطاء ما فيش حد عاقل ولا حتى في الأجهزة الأمنية راضي عنها.. بس هي مسألة وقت وهما كلهم ست شهور ويرحل.. هو مش مكمل وأعلنها رسمياً. فحيجرى إيه لو طولنا بالنا شوية؟.. يا أخي خلينا نعدي الفترة دي بأقل الخساير.. مش كفاية دم؟! فقلت: أنا ممكن أرد عليك في إطار رأيي الشخصي المبني على المشهد الواقعي الذي هو بعيد عنك ايضاً كما يبدو من كلامك المنطقي جداً نظرياً. المجلس العسكري لم يرتكب “أخطاء” فقط، زي ما قلت، بل سفك جنوده الدماء وهتكوا الأعراض وإستباحوا الحرمات مراراً وتكراراً.. والمأساة إن كل هذه الممارسات حدثت بعد ما حمله الشعب الأمانة وأعطاه الثقة وعامله بمبدأ العفو عند المقدرة. إنها ثورة شعب كاملة المعالم وستتم بإشتراك الجيش أو رغماً عنه ولا مجال للشك فيها أو التشكيك. وفي الحقيقة فرح الشعب بإنضمام الجيش متمثلاً في قيادته (كما إدعت) لمجرد أن هذا سيحقن الدماء ولم يكن أبداً للحاجة ولو كان إختيار القيادة نصرة مبارك لما دعمهم الجيش ولجاوروه في القفص إياه عاجلاً أو آجلاً. إنه الترحيب لتقليل الخسائر ولم يكن أبداً للضرورة. فإذا بمن أعطيته الأمان وأنت في موقف القوة يتحول إلى طاغية متجبرعليك في نفس الوقت الذي تحرك فيه الشعب أساساً لإسقاط الطاغية والطغيان. ممن تطلب التهدئة الآن؟! من الجريح المخدوع المصدوم؟ كيف تطلب الرحمة ممن لم يُرحم وتثقل عليه بأن تتطلبها لمن لم يرحمه؟ سأذكر لك بعض الوقائع المفجعة الرئيسية التي أدت إلى الأزمة الراهنة، حتلاقي إن الثوار موقفهم دائماً هو رد فعل.. مثلاُ ماسبيرو، كان علشان الكنايس إللي عماله بتتحرق من غير موقف حاسم بالرغم إن كان في قسوة متوفرة من المجلس على الشعب لما يناسبهم و”ييجي على المزاج”، والمحاكمات العسكرية لما يزيد عن 12000 مدني خير دليل.. تقدر تقول لي الناس إللي إتقتلت في مذبحة ماسبيرو إتقتلت ليه؟ مافيش إجابة ولا في محاسبة وكأن شيئا لم يكن! بل وتعاملو عادي خالص وبمنتهى البجاحة (والناس دمها لسه بردش) قعدو يكدبوعلى الملأ في المؤتمر الصحفي لما اتكرعو كدب.. دخلنا بعدها على أحداث محمد محمود التي أدت إلى أحداث مجلس الوزراء. طب بدأت إزاي؟ شوية معتصمين لا يتعدوا 200 نفر وأغلبهم ذوي حالات خاصة. يا إما أهالي شهداء (وبعضهم خاءفون من العودة إلى ديارهم لأنهم مهددون من ضباط بالقتل في حال عدم تنازلهم عن المحاضر، وبالرغم من إخطار السلطات منذ شهور لم يتوفر لهم أي حماية)، وبعض المصابين ممن لهم حقوق في علاج لم يتوفر لهم حتى تاريخه بالرغم من المطالبات المستمرة أيضاً.. يقوم “الأشاوس” بتوع الداخلية ينقضو عليهم كالعصابات، بشكل مباغت ودون سابق إنذار، وينهالوا عليهم بالضرب والسحل ليوقعوا بينهم إصابات أخرى وأعداد منهم تنقل للمستشفيات في حالة حرجة!.. فطبعاً الثورجية “المخربين” أمثالي ثارو بقى!.. وهو إنت منتظر إيه سعادتك؟ تقوم الداخلية ما تلمش الدور! لا دول يتمادو أكتر وتشترك معاهم الكتائب المسماه (مجازاً) “بالجيش المصري” ويبدأ سيناريو العنف في محمد محمود.. ويستشهد العشرات على حسب تقارير وزارة الصحة.. ده غير مئات الجرحى وإللي منهم كتير بعاهات مستديمة.. ونطلع من ده (وكأن التاريخ يعيد نفسه) على قال إيه “تغيير وزاري”!! ومن غير أي محاسبة برده تاني.. كأن أرواح الناس لما تهدر بالسلاح “الميري” ده مش أكتر من سوء إدارة، كأنها حادثة قطار أوعبارة نتيجه إهمال من إللي فيها “العدد في اللمون” بتاع زمان (المفروض).. ولا سيرة عن محاسبة برده! بل وإنكار لإطلاق النار على لسان رئيس الوزراء الجديد.. فالناس إعتصمت عند مجلس الوزراء ودي بقت جريمتهم طبعاً! وبقو هما إللي معطلين البلد مش إللي وصلهم لكده!. بقى هما دول إللي معطلين الإستثمار؟! طب وإللي بيتسترو على المجازر والإنتهاكات بعدم المحاسبة، والكذب وشهادة الزور، وإللي كمان بيتكلمو مؤخراً عن “مخطط لإسقاط الدولة” علناً وبشكل رسمي، هم دول بقى إللي بيدفعو الإستثمار “أبو عجلة” إياه للأمام؟!! وفي كل الأحداث يكون صباح الفل بتاع البشوات كدب فاضح إلى أن يواجه المسؤول “الكاذوب” بالدليل القاطع بالصورة والصوت “في بعض حالات”، فيقول لك دي “أعمال فردية” وسنحاسب عليها.. ولا نرى أي إجراء واحد معلن.. وطبعاً بتكرار السلوك ده ضاعت منهم الثقة و”نفذ رصيدهم” لدى الشعب من المصداقية. عارف الناس وصلت لقناعة شكلها إيه؟ الناس شافت ولاد الناس بينداسو ويتقتلو، الناس شافت نساءها بتتعرى، الناس شافت ولادها بتروح عينيهم وبيضيع مستقبلهم.. الناس شافت فلذات أكبادها بيتقتلو ويترمو في الزبالة ولوعايشين بترمو في السجون الحربية بعد محاكمات عسكرية “سريعة جداً” وجائرة قطعاً من حيث المبدأ والممارسة.. الناس شافت كل ده، ومافيش ظابط خد حكم في محاكمة مدنية حتى بعد عام كامل! مع أنهم الأولى بالمحاكمة العسكرية لظروف مهنتهم على أقل تقدير!!.. الناس شافت مبارك “المتهم” داخل المحكمة من غير كلبشات ومتشال زي الباشا وشافو ظباط متهمين يحملون تسليحهم الشخصي داخل قفص الإتهام! وفي نفس الوقت شافو شبابهم المصابين من التعذيب و”المتهمين” برده مربوطين بالكلبشات في سراير المستشفيات.. الناس شافت يا باشا.. جدع يا باشا! الناس عرفت وأدركت إن ما فيش عدالة، وإن في ناس مازالت فوق القانون وده معناه إن ما فيش قانون أصلاً، بالتالي يعني مافيش دولة بالقطع! فماذا تحمون يا رجال الأمن؟ هل من مجيب؟!! عارف الناس إللي مصابة إصابات مباشرة دي، عددهم كام؟ لو حسبتها تلاقي عندك حوالي 2000 شهيد، ضيف عليهم 1000 مفقود، ضيف عليهم10.000 مصاب، ضيف عليهم 12.000 محاكمات عسكرية يعني (أمسكت الحاسب الآلي) المجموع 25.000 ضحية ويمثله تقريباً نفس العدد من الأسر ولو إفترضت إن متوسط عدد الأفراد في الأسرة 5 (وهذا قليل بالنسبة لجحم وترابط العائلات المصرية) يبقى بتتكلم عن 125.000 متضرر مباشر، لو كل واحد منهم له 10 أصدقاء مقربين متعاطفين يبقى حضرتك أمام مليون و 250 ألف ثائر غاضب.. ده غير أمثالي من المتعاطفين الثوريين وإللي يمثلو نصف مجموعهم على أقل تقدير، وإللي مش أفشين قوي زيهم بس لا يطاوعهم قلبهم التخلي عنهم.. متخييل حجم الكتلة “الحرجة” دي وعاملة إزاي وحاسة بإيه؟ وأخيراً أقول لك الحل كان ولا يزال في إيد المجلس العسكري بالمحاسبة والحزم ولكن لا حياة لمن تنادي.. بل لم يبقى مصداقية أصلاً له وبالتالي لمن حوله من بطانة.. صديقي العزيز لوأنت من دعاة الإستقرار يبقى طالب بالعدالة فوراً! وإلا لا تطلب أن يمنحك البشرأشياء لا تملك لها مقابل. فلا يوجد إستقرار بدون عدالة، ولا في هلاوس أحلامكم الأمنية.. صديقي العزيز لا تطلب مني ما لا أطيق وإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.. صمت صديقي قليلاً ثم هم واقفاً وقال لي: أنا آسف، عندك حق!.. وإنصرف. أتمنى أن يقرأ صديقي هذا المقال لأوجه له هذه الرسالة: أنا بخاف على مصر زييك وبحبها برده بس فوق ده كله، أنا كمان بأغير عليها.