شمعة وكانون وأجولة وكرتون.. والوحدة المحلية: لا نعرف شيئًا عنهم كراكيب تصنع حياة على حافة الموت، في عشش تطاردها نظرة المارة وهطول المطر، صوت القطار صباحًا ومساءً يقلق مناهم وسكون فقرهم ونسيانهم، ما يفعل الشتاء في هذه الأكواخ البدائية، ولهيب الصيف الذي يبعث بأشعة تحرقها.. صور من الحياة الأخرى في مصر البعيدة رصدتها "البديل" داخل محافظة المنيا. في زاوية من هذا العالم يعيش المنسيون داخل شارع جانبي بمنطقة الحبشي جنوب محافظة المنيا، تفصلهم وترعة الإبراهيمية ستائر قماشية لا تقي تقلبات الجو ونظرة المارة، في شارع القنطرة المطل على تلك العشش يجلس عشرات الباعة وأصوات مكبرات الصوت المزعجة تشوش أسماعهم، الرثاء في صورته الحية لا يكفي لوصف أحوالهم وآلامهم، بعدما تخلى المجتمع عن تقديم أبسط الخدمات لهم. خيش وبطاطين وأقمشة كونت عششًا في شكل مربعات تصطف كالقطار خلف بعضها بعضًا، يزيد عددها على 20 عشة، تفصل كل واحدة منها والأخرى ساتر من البطاطين والأقمشة، ليصبح الحديث ممنوعًا، فصوت الجار مسموع عندهم، هنا أطفال ونساء وشيوخ وشباب يلجأون إلى المسجد لقضاء حوائجهم، ملابسهم ينثرونها عقب تنظيفها على حافة الترعة، أما بقية الطعام مهددة بالتسمم نتيجة القوارض والثعابين. العشة من الداخل عبارة عن حيز مساحته لا تتعدى 3 أمتار طولًا وعرضًا، تخلو من وجود دورة مياه، وكذا صنابير الماء، كما تخلو من أي أجهزة كهربية لعدم توافر تيار كهربي، تحت أقدامهم تتناثر الملابس والأغراض المنزلية البسيطة كالقدر وجراكن المياه وأواني الطعام والشراب، وفي تلك المساحة الضيقة يكون منامهم بالليل وفي النهار يمكثون قليلًا ويخرجون لمزالة أعمالهم حيث لقمة عيشهم. شمعة و"جركن" مياه بجانب قدر من الفخار وكانون لتسوية الطعام، كرتون وأجولة لحفظ ما تبقى من الثياب على أرضية مغطاة بالخوص والحصر، كانت هذه صور للحياة البدائية داخل العشش، وكأن حياة قد توقفت عند العصر الحجري. قاطنو المنطقة أجمعوا على أنهم نزحوا إليها وأقاموا تلكك العشش لافتقادهم البديل، فمنهم من تهدم منزله وآخر تم طرده من بيت العائلة رغم كبر سنه وعدم وجود مأوى له، في حين كان يتخذ البعض من أرصفة الشوارع مسكنًا ومتجرًا، وأضافوا أنهم تقدموا للحصول على وحدات سكنية بمساكن الإيواء ولم يحالفه والحظ لأسباب لا يعلمها، حتى أصبحت العشش الملاذ الوحيد لهم. وبسؤالهم قالوا إن معظمهم على باب الله لم يعد قادرًا على العمل لشيخوخته، ويعمل آخرون من الشباب في حرف تلميع الأحذية وبيع الأطعمة والأدوات على الأرصفة، كما يوجد العربجي سائق عربة بحمار والأرزقي عامل بالأجر حسب الطلب موضحين أن الحرف جميعًا توفر أقواتهم يومًا بيوم. في الوقت نفسه رصدت "البديل" عددًا من العربات الكارو تقف أمام العشش، اضطر أصحابها لربط الحمير على حافة الترعة لعدم توافر المكان وملاءمته، كما أنهم يستغلون تلك العربات في نشر ملابسهم بعد تنظيفها ووضع جراكن المياه بها. من داخل إحدى العشش يتحدث على استحياء شاب الثلاثين يحيى على: عندي إصابة في رأسي ناتجة من حادث مروري، وبالتالي لا أقوى على العمل، اضطررنا للعيش هنا بعدما تهدم منزل الأسرة بإحدى قرى المحافظة؛ ولأننا لا نمتلك مصدر دخل يوفر لنا قيمة إيجار غرفة واحدة، وتواجهنا هنا صعوبات جمة فنضطر إلى قضاء حوائجنا داخل مسجد قريب من المنطقة، كما نعيش في ظلام دامس ليلا، ونلجأ لوقد ما يعرف ب"الكانون" لتسوية الطعام. وأضاف: تقدمت لأكثر من مرة بطلب للحصول على وحدة سكنية ضمن الوحدات المخصصة لإسكان الأوْلى بالرعاية، فمرة يخبرنا الموظفون بضياع الأوراق والمستندات، وأخرى بعدم أحقيتنا وغيرها بأننا لم نكن ضمن من أصابتهم القرعة. "عم رجب" يقف أمام خيمته يعيد ضبط غطائها الخارجي بواسطة مقص حديدي بعدما أحرقت الشمس الغطاء: "هنتكلم نقول إيه احنا قاعدين في عشش الخيش بيتقطع كل شوية وبنشحت خيش عشان نداري على نفسنا ونعرف ننام.. ولا قدمت على شقق، وكذا واحد ييجي ياخد الورق وما يقدملناش، شكلكوا انتوا كمان جايين تتسلوا علينا". حالة أخرى لعجوز 65 عامًا يعاني الفشل الكلوي وأمراضًا بالعين، قال: أعيش بمرضي مستقبلًا أجل الله غير مبالٍ بحالتي الصحية المتردية؛ لعدم مقدرتي على توفير نفقات العلاج، وشغلي الشاغل يقتصر على توفير قوت يومي من مطعم ومشرب. أحد الأكشاك الخاصة بمشروع كفالة للأسر الأكثر احتياجًا بالمنطقة بات مغلقًا، دون أن يدري أهل المنطقة سبب غلقه ليؤكدوا أنه كان مملوكًا لأحد قاطني المنطقة يستخدمه كمتجر للبقالة، وتم غلقه دون سبب واضح. أهالي المنطقة قالوا: إنهم يكفلون بعضهم بعضًا عوضًا عن غياب كفالة الدولة وميسوري الحال، فكثير ما يلجأ الجيران لبعضهم سواء بالاستدانة أو توفير الطعام والشراب والكسوة، خاصة أن الجمعيات الخيرية لا تعرف طريقهم فمعظمها يتجه نحو مناطق بعينها كعشش محفوظ والجنيدية لشهرتها. وقال إسماعيل الفحام، رئيس الوحدة المحلية لمركز ومدينة المنيا: لا أعرف المنطقة ولا توجد عشش بالحبشي، فيما صرح مسؤول آخر بالوحدة المحلية بأن أهالي تلك المنطقة يقطنون بالمخالفة، حيث يستقطعون مساحات من إحدى الشوارع الفرعية دون مبالاة، ووعد بزيارتهم للوقوف على مشكلاتهم في محاولة لحلها. وطالب الأهالي بتوفير وحدات سكنية بمساكن الإيواء أسوة بأهالي عشش محفوظ، وأكشاك للترزق بالأخص لكبار السن، مع توفير الرعاية الصحة لهم، باعتبار أن أحوالهم المعيشية أصعب مما يمكن وصفه وأن أعدادهم قليلة لن تكلف الدولة سوى القليل. وكان صندوق تطوير العشوائيات أنهى المرحلتين الأولى والثانية ضمن مشروع تطوير منطقة عشش محفوظ، ولا يزال العمل جاريًا للانتهاء من تطوير المرحلة الثالثة والأخيرة.