يقولون إن الديمقراطية هي حكم الشعب, ولعل هذا صحيحا من وجوه عديدة لكنه ليس صحيحا على إطلاقه، فالنظرة الدقيقة للأمور سواء في الواقع المعاش أوفي البحث التاريخي تؤكد أنه وقبل الوصول لمرحلة حكم الشعب (هذا إذا تحقق أصلا) هناك اعتبارات عديدة يتم مراعاتها، وهذه الاعتبارات لا يسأل فيها الشعب, بل قد لا يهتم برأيه أصلا، ومن خلال هذه الاعتبارات يتم تخطيط الملعب ووضع الحدود والضوابط التي ستضبط حكم الشعب لنفسه. فنظرة لدستور الولاياتالأمريكية والتي تعد أعظم ديمقراطية (أوهكذا يدعون) سنرى أن مجموعة قليلة من المثقفين قد صاغوا الدستور، ولم يسأل الشعب الأمريكي قط سواء في دستوره ولا في التعديلات العديدة التي أدخلت عليه لاحقا، وذات الشيء في بريطانيا، التي تشكلت تقاليدها وقواعدها القانونية كالماجنا كارتا من خلال أحداث تاريخية كان للنخب الدور الأول والأخير في صياغتها، وقس لدى كافة الشعوب، بل إن غياب هؤلاء الأذكياء الذين يخططون الملعب لسائر الشعوب قد يؤدي إلى فوضى عارمة كالتي حدثت خلال الثورة الفرنسية, والتي غاب عنها توافق النخبة على القواعد الأسس التي يجب أن يسير عليها حكم البلاد, فسالت دماء الشعب والنخب على حد سواء حتى تحولت الثورة لإمبراطورية ثم أجهضت الثورة وارتدت للملكية مرة أخرى. ولعل القواعد الأساسية للديمقراطية الغربية والقائمة على اختيار الشعب لممثليه ليحكموا ويشرعوا لفترة محددة سلفا، وهي الفكرة التي تم تصديرها لكافة الشعوب كالهند أو باكستان مثلا تصبح مضحكة دون أن تختلط بإقرار قواعد الحرية الشخصية وحقوق الإنسان, قانونيا واجتماعيا, فما جدوى أن أختار من يمثلني في الحكم دون أن يكون لي حق اختيار طبيعة السلوك والأخلاقيات التي أحب أن أتبعها, أوالرأي والمعتقدات التي أحب أن أؤمن بها، وما جدوى أي انتخابات إذا تمكنت السلطة أن تسحلني في الشوارع لمجرد أنني خرجت معبرا عن رأي أوموقف، خصوصا أن سادتنا من النخب غير المنتخبة في الغرب لما خططوا ملعب الحكم أغلقوه على أنفسهم من خلال حزبين أوثلاثة فقط لاغير، فلوكنت أمريكيا فعليك أن تنتخب الجمهوريين أوالديمقراطيين, ولوكنت بريطانيا فعليك أن تختار بين العمال أوالمحافظين, وما باقي القوى إلا مجرد ديكور سياسي لحبك المسرحية، دون قدرة فعليه على تغيير الواقع أوالتأثير عليه, بل تكتمل مسرحية الديمقراطية في دولة كتركيا، التي لا يوجد فيها إلا حزب واحد مهيأ للحكم, والذي سيحكم سواء انتخبته أو لا. إذن فالحرية الشخصية وحقوق الإنسان هي المكسب الأساسي الذي تفوز به الشعوب, فذلك الغرب الذكي يحبذ ولا يمانع قط في تصدير منتجه التافه من الأحزاب والانتخابات والأيديولوجيات إلى البؤساء أمثالنا, لكن بعد خصم روحها ومكسبها الحقيقي منها, والذي هو حقي كمواطن أن أسلك كما أشاء دون أن أدان لسلوك أوعقيدة, فما جدوى أن أنتخب من يمثلني دون ضمان فعلي أنه سيلتزم بما انتخبته لأجله, وما جدوى أن أتفاخر بأن هناك من يمثلني في قمة الهرم وقد قبعت أنا في قاعه العريض مقهورا مهدر الكرامة, أسير متلفتا خوفا أن ينجح أحدهم في سبر ما في جوفي من أفكار وآراء فأبوء بنبذ المجتمع.