لكي نستكشف حقيقة اقتصاد السوق وديمقراطيته, علينا أن نلقي نظرة علي أصل الديمقراطية الغربية. فعندما تصاعدت نذر حرب العراق, فزع محبو السلام إشفاقا علي حلم السلام بعد انتهاء الحرب الباردة وبلوغ البشرية رشدها وإزالة العولمة للغربة بين الشعوب. وظننا أن قادة العالم الديمقراطي لابد منصاعون لمظاهرات شعوبهم المليونية, حسب قواعد الديمقراطية. لكنهم شنوا حربهم دون اهتمام بالمعارضة الشعبية. أمام أي جهة إذن تقع مسئولية هؤلاء القادة؟ والديمقراطية الغربية لاتشترط تولي الشعب الحكومة بنفسه, وكانت قديما مجرد تدبير سياسي مفيد للنخب لاستقرار الأمن في الدولة, ومقصورة علي الرجال دون النساء والعبيد. انتقدها أرسطو وأفلاطون لإعطائها نفس الحقوق للنبلاء وللعامة. ومكنت الرومان نوعا من مراجعة ذوي السلطان, وبقي التصرف في الأموال العامة والسياسة الداخلية والخارجية مقصورا علي النبلاء وحدهم. يقول العقاد إنه لم ترتق أمة قط بالمثل الأعلي للعدل والصلاح إلي أعلي مما تعتقد في ربها المعبود, ولم يطلب الناس قط نظاما لحكوماتهم أرفع من نظام الكون كما يعتقدونه. فإذا كان الإله غائبا أو حاكما بغير قانون أو متلاعبا بالبشر كآلهة الإغريق أو ميتا كما أعلن نيتشه, فإن الحكومة الأرضية التي تقتدي بهذه الحكومة الكونية لابد حكومة استبداد وانطلاق من القوانين. ومصداقا لهذا, قال الألمان بالإرادة كقانون للكون, وأقروا للحكومة بالمثل بالحق دون واجب, وبهذا اتصفت الدولة الألمانية الحديثة حتي هتلر. وقال الإنجليز أن الإله غير مطلق الإرادة, ووظيفة الملك هناك اسمية كالإله سواء بسواء, لا يتعرض لسياسة حكومته إلا بمقدار ما يدعوه رعاياه. من العقيدة الدينية والمواءمة السياسية, وضعت أسس الحقوق الديمقراطية الحديثة. فنال العمال الإنجليز حق الانتخاب سنة1867 لأنهم أصبحوا قوة لازمة للدولة في المصانع, ونال المزارعون هذا الحق بعدهم بثماني عشرة سنة; لأنهم كانوا أهون خطرا. ومنحت المرأة حق الانتخاب بعد الحرب العالمية الأولي, لاشتغالها بالمصانع أثناء انشغال الرجال بالقتال. وظلت مقاليد الأمور فعليا بيد نخب مسيطرة, في صراع مستمر مع بعضها ومع غيرها من الكتل المجتمعية. وهكذا كانت الديمقراطية قديما وحديثا أقرب إلي الضرورة العملية منها للمبادئ والأخلاق, ولم تكن قديما تعني حكم الشعب بواسطة نوابه, ولم تكن للدولة شريعة مرعية غير شريعة العرف وما يأمر به الملوك والأمراء ويستشيرون فيه بطانتهم, غير مقيدين بالمشورة ولا بالاستشارة. وينتقد بعض المعاصرين الديمقراطية لأن مساواة غير المتساوين مفسدة, ولأن الناخبين لايتخذون قرارات رشيدة بحكم جهلهم بالحقائق, وإنما تحركهم مصالحهم المباشرة ولو علي حساب الصالح العام. وتداول السلطة بين ذوي التوجهات المختلفة يؤدي لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي, ولهذا ادعي البعض أن الديمقراطية لاتناسب الدول النامية. وقد لاتنتج أغلبية تعطي الحكومة لونا واضحا, مما يؤدي لتشكيل حكومات ائتلافية من مختلفين تتسم بالانتهازية وعدم الاستقرار. كما أن آليات اتخاذ القرار في النظم الديمقراطية تستغرق وقتا وتسم عمل الحكومة بالبطء. واعتقد المفكران الإيطاليان باريتو وموسكا أن الديمقراطية الحديثة هي مجرد قناع يخفي حكم النخب الذي هو من طبيعة البشر, بسبب قصور وعشوائية الجماهير بالقياس لإصرار ومبادرة ووحدة النخب. ولهذا فدور المؤسسات الديمقراطية هو تغيير الممارسة السياسية من الاضطهاد إلي المناورة والتلاعب. كما أصبحت الديمقراطية مكلفة, لايقدر عليها إلا الأثرياء, فكيف يدبر المرشح تكاليف حملته الانتخابية دون دعم الأغنياء؟ وهل يعقل أن يمول الأغنياء حملة من يهدف لدعم الفقراء وحمايتهم من استغلال الأغنياء, أم يمولونهم للتحكم فيهم وإصدار قوانين تناسب مصالحهم؟ وتكلم مفكرو الغرب عن إيجاد حزبين شبه متطابقين في توجهاتهما يتنافسان شكليا علي السلطة, بحيث يتمكن الشعب دائما من التخلص من الأوغاد في الانتخابات دون حدوث تغييرات عميقة في السياسات. تتصرف المجتمعات الديمقراطية الغربية بصورة محيرة تفقدنا القدرة علي الحكم علي مدي إنسانية الديمقراطية. فقد أجمع المجتمع الديمقراطي الأمريكي علي إبادة الهنود الحمر والاستيلاء علي أرضهم, وعلي استعباد السود واعتبارهم غير آدميين, وخطفهم من بلادهم ونقلهم مقيدين بالسلاسل في رحلات يموت معظمهم خلالها. ولم تقرر حقوق السود إلا بعد الفورات المدنية في ستينيات القرن الماضي, في تطور متسق مع مبادئ الصراع والمواءمة. بل إن جميع المجتمعات الديمقراطية الحديثة وعلي رأسها المجتمع الديمقراطي الأمريكي, ومن قبله المجتمع الإنجليزي( أبو الديمقراطية) أجمعوا ديمقراطيا علي تأييد المجتمع الديمقراطي الإسرائيلي العجيب, الذي أجمع علي نهب فلسطين وقتل وطرد أهلها. وكانت سفن القراصنة في عصرها الذهبي تدار بصورة ديمقراطية يرأسها قرصان منتخب( شيخ منصر) بالانتخاب الحر المباشر, وكانت تنهمك بعد ذلك في قطع الطريق وأعمال القتل والسلب والنهب تحت راية قيادتها المنتخبة ديمقراطيا. وجل المعارضين لحرب العراق في المجتمع الديمقراطي الأمريكي يعترضون عليها لأنها تعرض أبناءه للقتل, ولأن الإدارة الأمريكية كذبت عليهم بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق, ولا يأتي ذكر المذابح والمظالم التي يتعرض لها أهل العراق إلا عرضا, وكأنه لاغبار علي الحرب الظالمة إذا شنت بطريقة لاتعرض حياة المعتدين للخطر, أو تمت في جو من المصارحة. كما تكاتفت الدول الديمقراطية أو سكتت علي معاقبة شعب غزة لأن اختيارهم الديمقراطي لم يكن حسب المطلوب. ليست العبرة بالديمقراطية كقيمة مطلقة, ولكن قل لي ماهي المرجعية العليا لمجتمعك الديمقراطي؟ أقل لك هل هو مجتمع إنساني, أم عصابة خارجة علي كل قانون. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم