جدارن خرسانية وأخرى حديدية وثالثة جغرافية، ربما تعمدت الدولة وضعها، للفصل بين حياتين: الأولى لمن يعيشون حياة المدينة الفاضلة، والثانية لمن يندرجون تحت حسبان حياة الأموات. فمدينة العشوائيات التي ما إن تطأ قدمك أرضها حتى تبادرك رائحة تلال القمامة بها، لم تخل من عشوائية سيارات الأجرة التي لم تجد أحدًا ينظم حركتها، غير إحدى الغرف المجاورة للموقف، والتي كتب عليها "شرطة مرور"، والتي خلت من رجالها. وتقسم بولاق الدكرور إلى خمس مناطق: ناهيا (ويبدأ شارع ناهيا من كوبري بولاق إلى قريه ناهيا)، شارع همفرس (ويوازي شارع ناهيا من بدايته وينتهي في ميدان الطابق)، شارع أبو بكر الصديق (من أكبر شوارع بولاق الدكرور، ويصل بين شارع ناهيا وشارع همفرس)، شارع محمد نافع (من الشوارع المركزية، ويصل بين كل من شارع ناهيا وشارع الجمعية من جهة وشارع همفرس من جهة أخرى)، شارع عشرة (من أكبر الشوارع التجارية، متفرع من شارع همفرس وشارع أنور العدوى، ويصل بين شارع ناهيا وشارع القناية). كل تلك المناطق تنخفض بها الخدمات العامة بشكل ملحوظ عن المناطق الراقية المجاورة لها، والتي لا يفصلها عنها سوى سور خرساني. فبولاق الدكرور تقع غرب حي الدقي والمهندسين وشمال فيصل والهرم وجنوب إمبابة وبشتيل، ورغم ذلك يعيش أهالي بولاق الدكرور حياة أشبه بالجزيرة المنعزلة. مدينة العشوائيات من داخل أحد أزقة بولاق الكرور، وتحديدًا في شارع عبد اللطيف فرج المتفرع من شارع ناهيا، تعددت المشاهد في الشوارع الجانبية بين أبنية تهالكت جدرانها بسبب الصرف الصحي خلال الفترات الماضية، وبين انقطاع شبه دائم للمياه طوال النهار، وبين الشوارع التي لا تصلح للسير فيها؛ بسبب الحفر والتواء طرقها. يعتبر سكان بولاق الدكرور أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، كونهم لم يحظوا باهتمام أي مسئول على مدار سنوات مضت قبل وبعد ثورة يناير وحتى اليوم، كما يقول محمد إبراهيم، صاحب محل ملابس، وأحد سكان منطقة بولاق الكرور، معتبرًا أن الحكومات المتتالية لم تعبأ بسكان تلك المنطقة، وكأنهم ليسوا على خريطة مصر، لأنهم لم يجدوا حلولاً لمشاكلهم المزمنة التي تعود أهل المتطقة عليها في مدينة العشوائيات. أحمد، صاحب الأربعين عامًا، والذي تطل شرفة منزله على أحد مقالب القمامة بمدخل بولاق الدكرور يقول "لا نحظى بما يحظى به سكان المهندسين والدقي، رغم أن الذي يفصلنا عنهم مجرد عازل خرساني، من مكان خالٍ من القمامة والعشوائية التي يتسم بها موقف سيارات الركاب في أول مدخل بولاق، والذي لا يتوقف أصحاب السيارات ليلاً أو نهارًا عن المشاجرات والضجيج وإطلاق آلات التنبيه التي يتسارع أصحاب السيارات في المنافسة على شراء أفضلها لإزعاجنا، وسط غياب لتنظيم تلك العشوائية من المسئولين، كما ينعدم في المنطقة تواجد رجال الشرطة، وهو ما يتسبب في انتشار أعمال البلطجة وفرض الإتاوات على أصحاب سرفيس الأجرة، بالإضافة إلى انتشار المخدرات في المنطقة بشكل مخيف". ويضيف أن كثيرًا من الخدمات الأساسية بالمناطق يكاد يكون منعدمًا، كأزمة وصول المياه إلى المنازل، فالمياه منقطعة عن كثير من منازل المنطقة طوال فترة النهار وحتى وقت متأخر من الليل، كما أن هناك شوارع لا يستطيعون السير بها؛ لشدة تعرجها ووجود الكثير من الحفر بها، وبعضها يعاني من مياه الصرف، وتابع "تقدمنا إلى محافظة الجيزة بالكثير من الشكاوى، إلا أن النتيجة كانت "ودن من طين والتانية من عجين". ومن داخل أكبر شوارع بولاق الدكرور (شارع ناهيا) تننتشر الروائح الكريهة؛ بسبب مقالب القمامة المتناثرة بطول الشارع، والتي يشكو أصحاب المحلات منها؛ لأنها تعطل حركة البيع والشراء، خاصة لمحلات المأكولات والمطاعم. وقال إبراهيم محجوب، صاحب أحد المقاهي بمنطقة بولاق، إن أكبر المشاكل التي تواجه المنطقة هي أكوام القمامة التي تنتشر بطريقة كبيرة في نواصي وشوارع المنطقة، مسببة أزمة كبيرة لأصحاب المحلات الذين لم يستطيعوا ممارسة أعمالهم، مع انتشار تلك القمامة بالقرب من محلاتهم. وأضاف محجوب أن أهالي المنطقة تقدموا بالعديد من الشكاوي للمحافظة؛ لإيجاد حل لتلك الأزمة وتخصيص مكان لوضع القمامة به، غير أن تلك الشكاوى كانت بلا قيمة، بينما تختفي القمامة في الحال عند زيارة أحد المسئولين للمنطقة، وبعد مغادرته يعود الوضع إلى طبيعته. قبلة المغتربين ويحدثنا عطية، من أهالي منطقة بولاق، قائلاً "جئت من محافظة بني سويف منذ 15 عامًا إلى بولاق الدكرور، وبحثت عن عمل وتزوجت، وأنجبت 3 أولاد، ورغم مرور تلك المدة، إلا أن بولاق الدكرور منذ أن قدمت وهي كما هي لم يتغير بها شيء إلا قليل. عطية فوزي، يعمل بالحياكة وصاحب ال 35 عامًا، يقول "أعمل بالحياكة في أحد المحلات بالدقي، وعندما أخرج من بولاق في الصباح للذهاب لعملي وأعود في المساء، أشعر بالفارق بين مكان العمل ومكان الإقامة، وهو ما يجعل أهالي المنطقة يشعرون بأنهم ليسوا من الشعب المصري". وتابع أن "بولاق الدكرور من أكبر المناطق التي يلجأ إليها المغتربون ممن قدموا من محافظات أخرى للعمل بالقاهرة والجيزة، ويرجع ذلك لكونها أقرب الأماكن للوصول إلى وسط البلد ولانخفاض أسعار السكن والمعيشة بها، فمن منطقة بولاق الدكرور خرج الفنانان صلاح عبد الله، وسعيد صالح، والمخرج عاطف الطيب، الذي عاش فيها فترة صعوده الفني، واللاعب الشهير أبو تريكة". وعلى إحدى نواصي شارع ناهيا يقع محل عصير، يقول محمد متولي صاحب المحل "لم نعد نثق بالمسئولين عن منطقة بولاق، فقد أشبعونا منذ عام بالكلام عن أن المنطقة سوف يتم عمل إصلاحات كبيرة بها، بتعليمات من رئيس الوزراء، وإلى الآن لم يحدث أي شيء". وتابع أن "المنطقة تعاني الكثير من فقر الخدمات، فالشوارع غير ممهدة، والأهالي ينتظرون اوقات تدفق المياه، والقمامة منتشرة في الكثير من الشوارع الرئيسية، ويجب على المسئولين أن يتحركوا لفعل شيء؛ لأن المنطقة أشبه بقنبلة موقوتة، من الممكن أن تنفجر في أي وقت، وعندها لن يستطيع المسئولون أن يوقفوا القنبلة". وبإحباط شديد قال محمد الذي يجلس على جانب موقف السرفيس ببولاق لبيع أدوات منزلية لا يتعدى سعر القطعة منها الجنيه ونصفًا "لن يتحدث أحد عن شيء، الناس كلها تعبانة، وعندها يأس وإحباط شديد، أي حد هيكلمك وهيقول لك الحالة زفت ومش هيتكلم معاك في أي تفاصيل عن المشاكل، الناس هنا حالتها تعبانة وما فيش أي خدمات، الشباب طول النهار قاعد على القهاوي مش لاقي شغل". وتابع "أبيع هذه الأشياء لأتحصل على قوت يومي، بعد أن توقفت حياتي، بعد أن قامت الشرطة بطردنا من طلعت حرب"، وتابع "حتى في منطقة بولاق كل يوم أدخل في مشاجرات مع من يجمعون الإتاوات من البياعين، لعدم وجود أي رقابة على المنطقة، فالجميع يجعل البلطجة سلاحه على الناس". من جانبه أكد الدكتور جلال أمين، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية، أن مشكلة المناطق العشوائية بمصر من أكبر التحديات الاساسية التي تواجه الدولة، لما لها من أبعاد اقتصادية واجتماعية تؤثر بالسلب على حياة المواطنين الذين يعيشون في تلك المناطق، مشيرًا إلى أن أغلب سكان المناطق العشوائية بمصر جاءوا من القرى والنجوع بحثًا عن عمل أو أملاً في أن تكون الحياة المدنية أكثر راحة لهم من الحياة الريفية، وفي المقابل لم تستطع الدولة على مدار السنوات الماضية أن تضع حلولاً لمشاكل تلك المناطق، والتي تتزايد يومًا بعد يوم، وتكاد تنعدم بها الخدمات بمختلف أنواعها، وهو ما يشكل كارثة مستقبلية إن لم يوضع حل لتلك المشاكل. ولحل تلك المشاكل وتجنب الأزمة المستقبلية طالب أمين بأن تتعامل الدولة بمفهوم العدالة الاجتماعية بين جميع المواطنين من توفير الخدمات لتلك المناطق كغيرها من الأحياء الراقية، حتى يشعر مواطنو تلك الأماكن بأنهم متساوون مع غيرهم من سكان المناطق الراقية، وأنهم غير معزولين عن الدولة، فيحدث مزج بين جميع الفئات المجتمعية، مؤكدًا أن هذا سوف يعمل على الحد من الأعمال الإجرامية التي نسمع عنها في المناطق العشوائية. وقالت الدكتورة هالة إبراهيم أستاذة علم الاجتماع بتربية عين شمس إن الأشخاص الذين ينشؤون في بيئات عشوائية في الغالب يكون لديهم شعور بعدم تمتعهم بحقوقهم الدستورية والقانونية التي وضعتها الدولة للمساواة وعدم التمييز بين المواطنين، موضحة أن الكثير من سكان تلك المناطق ربما يخرجون عن القانون؛ لعدم وجود اهتمام باحتياجاتهم الإنسانية، مشددة على أن مشكلة المناطق العشوائية هي أكبر التحديات التي على الدولة أن تضع لها حلولاً سريعة؛ حتى لا تتفاقم الأزمة بشكل لا نستطيع التعامل معه خلال السنوات المقبلة.