يقوم خطاب داعش على استدعاء مفاهيم معينة من المفاهيم الأصولية-الإسلامية الراسخة في علمي أصول الدين وأصول الفقه، ومن أهمها مفهوما "الردّة" و"تطبيق الشريعة". وصفت داعش عمليتها النوعية الأخيرة في سيناء (1-7-2015) باعتبارها عملية موجهة ضد جيش الردة المصري وشرطتها، "في غزوة مباركة يسر الله أسبابها تمكن أسود الخلافة في ولاية سيناء من الهجوم المتزامن على أكثر من 15 موقعا عسكريا وأمنيًا لجيش الردة المصري". ولمفهوم الردة في الإسلام تاريخ محدد من التطور، وهو يمثل في اتجاه تطوره حركة عكسية بالمقابلة مع مفهوم (الجهاد الدفاعي)؛ فقد ظهر مفهوم الجهاد في الأصول الإسلامية المبكرة ليفيد الدفاع عن الجماعة المسلمة الأولى ضد محاولات إرغامها على التخلي عن عقيدتها، وهي من تفسيرات {ويكون الدين كله لله}. ولكن سرعان ما انتصرت الدولة الإسلامية وتمددت جغرافيًا وديموجرافيًا، فتفرع عن مفهوم الجهاد الدفاعي، أو الجهاد في سبيل حرية العقيدة، مفهوم الردة، أو الجهاد لصالح قمعها. ومن الملاحظ أن ذلك التحول جاء مبكرًا للغاية (عهد أبي بكر الخليفة الأول)، وليس الزمن عاملاً هامًا هنا بقدر عامل آخر هو انتصار الدولة ذاتها، واعتبارها الخارج عن العقيدة بعد إيمانه بها عدوًا لها. يمثل مفهوم الجهاد الأول مفهومًا تجميعيًا، يدافع عن النواة الأولى، بينما يمثل مفهوم الردة حركة تفريقية، في قسمة المجتمع الواحد إلى مؤمن ومرتد. والملاحَظ كذلك أن الخطاب الإرهابي لا يستعمل مطلقًا أية تعبيرات ذات توجه اجتماعي، كمواجهة القمع، أو الفقر. وهذا يعني احتمالاً من ثلاثة: إما أن الإرهابي ليست لديه قضايا اجتماعية أصلاً، أو أن الأصول الإسلامية نفسها التي يعتمدونها منفصلة عن التوجه الاجتماعي أو ضعيفة الارتباط به، أي أنها فاقدة كلاً أو جزءًا لرؤية اجتماعية محددة لدور المجتمع من مراعاة حقوق ومصالح أفراده، ودور الأفراد تجاهه في المقابل، وإما أن الإرهابي يستعمل هذا الخطاب لقدرته على الحشد المسلح بشكل مباشر تجاه الدولة بمنهج تبرير الوسائل. وكل هذه الاحتمالات صحيح؛ فصاحب القضية الاجتماعية لا يعمل على هدم المؤسسات وإسقاط الدول وتقسيمها الذي يتضمن بالبداهة ضياع مصالحه ومصالح الآخرين الاجتماعية، كما لا يستعمل خطابًا هو نفسه قمعي، ودون وضع مطالب اقتصادية أو اجتماعية محددة، كما أن الأصول الإسلامية نفسها -في رأيي- هي بالفعل ضعيفة الارتباط بالتصور الاجتماعي كما سيلي، بالإضافة إلى ذلك فلمفهوم الردة فعلاً صلاحية مباشرة للاستعمال في الخطاب الإرهابي. وترجع صلاحية مفهوم الردة للاستعمال في خطابات الأصوليين-المسلحين أولاً لقدرته على توجيه حرب عقائدية، توظف مفهوم الجهاد توظيفًا داخليًا تجاه السلطة في المجتمع ذاته، أو جماعة معينة فيه، وليس ضد القوى الاستعمارية، فالمرتد أخطر من المستعمِر في اعتباره. والواضح أن الدولة الإسلامية المبكرة قد استعملت هذا المفهوم للتخلص من معارضيها، ثم انقلب المفهوم عليها ليستعمل ضدها في العصور التالية، وحتى اليوم. كما ترجع قوة هذا المفهوم ثانيًا إلى استقراره في منظومة العقيدة-الفقه الإسلامية؛ وعدم استقرار مفهوم المجتمع، أو المواطنة، أو الدولة الوطنية، في هذه المنظومة في المقابل بما يصنع معه تعارضًا وله بديلاً. والردة كمفهوم تفريقي ضد مفهوم المواطنة، هي حرب مفهومية قبل أن تكون عسكرية، وهو ظاهر كذلك في الاستهداف المنهجي لمواقع التراث في العراق والشام، والهدف منها تدمير هوية الدولة الوطنية لصالح هوية إسلامية، وليس التخلص من مظاهر شركية. ويرجع عدم استقرار مفهوم المجتمع، أو المواطنة، أو الدولة الوطنية في المنظومة العقدية-الشرعية الإسلامية –برأيي- إلى ضعف التوجه الاجتماعي في الأصول الإسلامية، التي تنبني عند أغلب الفرق الإسلامية على أساس الأمر الإلهي الشرعي، وليس على أساس التجربة الاجتماعية؛ فمصدر القيمة عند أغلب الفرق الإسلامية-وبخاصة الأشاعرة-هو الأمر الإلهي، في حالة لا أدرية أخلاقية تقول بأن العقل البشري غير قادر على التفرقة بين الخير والشر، وهي النظرية التي قدر لها الانتصار والانتشار على حساب نظرية المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين. وما دام الأمر الإلهي هو مصدر التشريع، فلا يوجد من أساس للاجتماع المقبول غير كون الدولة (إسلامية) بالمعنى الأيديولوجي للكلمة، حيث لم ينص الشرع على أولوية الدولة. وهو ما يصب في صالح الأكثر تطرفًا من تنظيمات الإسلام السياسي، وهو أيضًا ما ينتج لدينا ظاهرة (الإرهاب بالقوة) في نهاية المطاف. الإرهابي بالقوة هو كل مواطن يعتقد في المنظومة المفاهيمية التي يستعملها خطاب الإرهابي بالفعل. الإرهابي بالقوة لم يحمل سلاحًا بعد، لكنه يسير في الشارع ويجلس على المقهى على استعداد في أي لحظة للتحول إلى إرهابي بالفعل حين يحقق الإرهاب انتصارًا نوعيًا. وبالفعل، فكل مواطن مصري وعربي تقريبًا يؤمن بأن الدولة ليست هي النسيج الاجتماعي القياسي، فهي مجرد شكل وهمي، ويؤمن في قراره أن النسيج العقدي هو الأنقى كمًا والأقبل كيفًا. الإرهابي بالقوة أخطر من الإرهابي بالفعل؛ فهو أوفر عددًا، وهو الجار والصديق والقريب، وهو الذي يمثل مجال معركة المثقفين المستقلين، إذا كان الإرهابي بالفعل مجالها عند الدولة. ولذلك فلنقْدِ المفاهيم الأصولية دور هام بقدر فاعليته في المعركة ضد الإرهابي بالقوة، وهذا النقد إما يكون بالتطوير الداخلي، بإعادة إحياء توجهات في الإسلام تؤدي إلى اعتبار الدولة كنسيج اجتماعي ينبغي على الجميع حفظه من التفكك، وذلك باعتبار أن الإنسان قادر على إدراك القيم اعتمادًا على العقل والتجربة الاجتماعية، أو يكون النقد لتفكيك هذه المفاهيم التي يعتمد عليها خطاب كالخطاب الداعشي كي لا يلاقي هذا الخطاب ما يتوافق معه عند الجمهور، الجمهور الذي هو ضده اليوم، لكنه ممكن جدًا أن يكون حليفه لو حقق انتصارًا نوعيًا.