سكت يوسف توقف لسانه عن السرد.. ما عدت أشعر هل مازلت جالسًا بجواره.. أم أغوص معه فيما يرويه، والتفت إليه وفوجئت به وقد تعلقت عيناه بموجة مياه خفيفة تتابع المجيء بهدوء ثم تعيد الكرة.. وانطلق لسانه من جديد: "التصقت بالمسجد وبدأت ألحظ ماكنت أعبره في سرعة.. وفي إحدى المرات اقتربت من العامود المعروف قبيل مقعد "شيخ حديث بعد العصر".. قبل توسعة المسجد الأخيرة.. تميز العامود الرخامي الثالث قبل "الصندرة"، بالحقائب البلاستيكية، المتراصة حول الرجل الجالس مادًّا قدميه، كانت عيناه تزويان بصورة غريبة، تشى بانكسار لاتخطئها الأبصار، تستطيع بشيء من التدقيق، عد رموشه الملتصقة في بلل خفيف، خط الزمان بكل فرشاته وألوانه دروب الحياة وعروجاتها على ملامح وجهه، فأضحت لوحة متاهة من تجاعيد لا أول لها من آخر عصية التماسك".. - "عجوز الشكل.. صغير السن".. "هكذا ابتدأني الرجل بأربع كلمات، بدت تشجيعية، بصوت منغم يشوبه قليل من الفضول واللهفة، وحثت أهدابه لحظة إلقائه السبعة عشر حرفًا الخاطفة، باستئناف الحوار مع غريب من دون ريبة.. ولم يتركني لأسر تفكيري.. "لا تصدق كل التجاعيد.. أنا اللي اشتريت المرض بنفسي وبعت صحتي بالرخيص.. عمرك شفت واحد يبيع دمه علشان يأكل ويعيش.. أنا من باع ليس فقط صحته، بل سعادته وعمره، مقابل دمائه، قصتى يا بني تصعب على الكافر بس نفسي بني آدم يسمعني لآخر حكايتي، لكني لا أسأل الناس؛ لأنى سمعت أحد العلما عند مقام ستنا زينب حكى أن الإمام علي قال "الغنى الأكبر اليأس عما في أيدى الناس".. كان صوته مؤثرًا، وبه تقطيع ناي تفتتت فتحاته من غير دموع، هممت بتركه فلم أقصده بتلفتي بالمسجد، لكنه هب فجأة وحرك جذعه الأعلى الهش متشبثًا بذراعي في توسل وبدا مذلولًا والدموع تتجمع فى مقلتيه، لا أدري من أين.. - "اسمعنى يا بني مصدقت الاقي حد اتكلم معاه، نفسي يحس بي إنسان أكلمه ويناقشني أو حتى يتخانق معايا.. أنا حكايتي صعبة يا بني ونفسى حد يهتم بي، أنا حاولت كتير أموت، معرفتش مالقيتش عندى شجاعة حتى أموت نفسي، جيت هنا عند ستنا".. وخزتني جوارحي ووصمتني بمتبلد الإحساس وأنذرتني بالهروب وتركي وحيدًا، ولم أملك إلَّا الإذعان وإعارته أذني وعيني، لكن عيناه المزويتان لم تكتف، فطلب الاهتمام بكياني كله، فسلمته إياه صاغرًا وجلست أمام شبيه المسن الهندي، وصاحب لوحة التجاعيد. - "اسمى الحقيقي فتحي، تسعة وأربعون سنة، و8 شهور و11 يومًا، من يراني يعطيني ليس فقط سبعين، بل تسعين سنة، نتيجة ضعف جلدي وضمور الطبقات الحيوية ببشرتي.. بسبب السعي يوميًّا وراء عربات الإسعاف المنوط بها البحث عن المتبرعين بالدم، وكنت أولهم، وكانوا يعرفونني، وبمجرد رؤيتي يضحكون وتشى نظراتهم بأني الزبون المستديم، كانت آخر مهنة لي، كان لأمثالي عمل وكوب عصير أو سبع جنيهات ونصف ثمن التبرع وقتها يكفوني كام يوم، مع النفحات عند ستنا لا تنقطع. قبلها احترفت الطبخ وذاع صيتي في كل مكان ودخلت بيوت لا تعد ورأيت نساءً أكثر من الحصى، وعلى كل لون، وكن سبب كل بلوة أصبت بها، الطباخ يصل لأماكن عيب في البيت.. وغلط! صوت الأواني والصحون يحفظ الكلام وينقلها لمن يطهو الطعام، صدقني يابنى كنت أنظر في الإناء اللامع وأعرف ما حدث مع الهانم صاحبة البيت أو زوجها كدرها بأي طريقة، ولم أغو أحدًا ولكن.. شيئًا فشيئًا دون اسمى في زيجات عديدة سمها عرفية، حقيقية، إصلاح ذات البين، محلل، كما شئت، الكارثة يا بني والله من غير لمس ست واحدة".. "كان يحكي في سرعة تسبق أنفاسه المتقطعة، ويغرس أصابعه الدقيقة في ذراعي ضاغطًا في توافق مع سكاته، وانفعاله المصحوب بتجمع دموعه بمقلتيه كلما غرف من معينه، وحضرته آلامه تنبض، وكأنها تجلس بيننا ونظراته تشرد تتأملها".. - "فتحت عيناي على أمي بطرحتها السمراء الأثيرة، لا أذكر متى تنبهتُ أننا نقضي رحلة يومية من"ببا "بلدتنا في"بني سويف"، حتى ميدان "السيدة زينب".. تزكم أنفي رائحة "الجبن القريش" التي تتقن أمي صناعتها مع نساء الجيران، وتشتهر بخبرتها فى لف الحصيرة وتقطيع الجبن ورش الملح بحساب، فكان لها زبونها، في "سوق العتريس"، الذي حفظت تفرعاته الصغيرة، وخبرت دروبه، ولا أتذكر متى عرفت أنى يتيم بلا أب، إلَّا عندما استوقفني بائع كان كل من في السوق يسخر من "لثغته "سألني البائع من أين أتت بي أمي؟! - "وأحسست أن شعري الأصفر الواضح في وجهي بحاجبي الكثيفين يقفان من الاندهاش لأغرب سؤال باغتني وقتها، ولم أتوقعه.. ولا أنسى أن صراخ أمى حينها: "وله يا فتحى سيبك منه".. والتفتت إليه قائلة: "لمّ نفسك واتشطر على أدك ياخويا" وزجرته وسحبتني بذراعها من أمامه.. كانت نظرات البائع وقتها تتفحصني في معان فهمتها بعد عشر سنوات، ولا أعلم حتى الآن: هل فهمتها أمي؟ ذكريات طفولتى مقيتة، كنت ضعيفًا جدًّا.. لا يلعب معي أقراني.. صباح الخير تعني صفعة على قفاي.. تبلعها أمي كثيرًا وعينانا تتلاقى في انكسار، وأسنانها تنظر إلى الأرض مع بصرها، وهمسها المبكي يصفر في وهن: "بيهزروا معاك".. دفع قفاي ثمنًا كبيرًا من كرامتي ونزيف نفسي، لاستمرار وقوف أمي للبيع في "سوق العتريس" .. ومازال موقف المعلم الجزار مع أمي محفورًا في رأسي، ويؤلمنى ويوخز قلبي، يوم أن أمسك الجزار بيد أمي بقوة وحصرها وهرسها في كفه الغليظ ذي الأصبع الملفوف دائمًا بالشاش، وأمال رأسه في دلال وهمس لأمي.. وهي تحاول إفلات كفها من قبضته، وخرج صوته كالبهيم العطشي: "عايز الحلال وشاري".. كان رد أمى له: "أخويا يا معلم.. انت أخويا، عايزة أربى فتحي ولا يدخل عليه غريب.. أخاف على ابني من البهدلة".. "عذابات يا بني شفتها.. واحد يمسك إيد أمي، واحد يبص على ضهرها ويقول في خبث: "انت نحيفة اليومين دول.. لعل المانع خير" لا أعرف في أي قرار مكين أو بير كانت أمى ترمي فيه كل السخافات وتلقيح الكلام والجتت".. "كنت أبات في "حوش" بيت في "شارع نافعي" متفرع من "شارع زين العابدين" أطول شارع ملاصق لقسم "شرطة السيدة زينب" في أوله "محلات باتا" للأحذية و"الكرنفال الحديث للملابس، ومطافئ السيدة والباب الخلفي للسجل المدني وبيت "الخرس" وبيقولوا إن ريا وسكينة سكنت فيه فترة مطاردتهما وحارة "مراسينا" ولوكاندة الغلابة.. بنسيون الصعايدة والفلاحين والصنايعية الغلابة والموظفين فيه مرشدين للقسم، والمخبرين يوردوا أسماء النزلاء أولًا بأول.. وعرفت كل شيء عنهم في حجز القسم، أحكي لك عنه بعدين".. كانت "أم عنتر" وزوجها "عم زكي" يعطفان على أمي الموردة للجبنة القريش والبيض البلدي والزبدة الفلاحي.. كان مبيتنا في حوش بيت "نافعي". على فرشة جلاليب قديمة وكليم مقطع كرهت لونه وخططت عليه بالقلم الجاف ورسمت أمي وواحدة حلوة ورسمت أبويا وأخويا لو رزقني به ربنا من وصف أمى، وطوال سنين عيال الجيران أصحاب فضل عليَّ أمسكت كتبهم الدراسية في الإجازة بعد ما يرموها، وعلموني أقرأ وأكتب..