الأبطال الجدد ينتظرون لحظة الوقوف فوق حطام مصر قبل سنوات طويلة.. أيام كنت طفلاً في بيت أهلي. كان شهر رمضان يدق الباب. وكما كان يحدث كثيراً في بيوت الطبقة المتوسطة. تبخر مرتب أبي في الأسبوع الأول من الشهر. وخيم الحزن والكآبة علي البيت. كيف سيأتي الشهر الكريم، ونحن »علي الحديدة«. لم نستعد بالياميش والمكسرات. و»الذي منه« لزوم رمضان! كنت أقف علي باب حجرة أبي.. ولمحت أمي تنزع الغويشتين »اللي حيلتها« من ذراعها، وتقدمها إلي والدي. قائلة فيما يشبه الهمس: خد يا يحيي يا اخويا دول.. مشّي الحال بيهم! نظر أبي إليها في دهشة واستنكار: - وقال لها: لا ردت وهي تضع الغوايش في يده: ما انت اللي جبتهم.. ابقي هات لي غيرهم لما ربنا يسهل! وقبل أيام.. كنت أتصفح ارشيفي من الصور الفوتوغرافية. وفوجئت بصورة كان المصور الشاب الموهوب »أحمد هيمن« قد إلتقطها. لامرأة مصرية عجوز. جالسة علي الرصيف وأمامها بضاعتها. قوطة مصرية حمراء. وثوم وبعض الفجل والجرجير! ورغماً عني وجدت نفسي أسرح في وجه بائعة الجرجير العجوز. الذي حفرت ملامحه وقسماته بما لايمكن وصفه من علامات الزمن والأسي. والفقر والكفاح. وحكمة الرضي بمصاعب وهموم الأيام! لم استطع أن أرفع نظراتي عن وجه بائعة الجرجير. وسمعت هاتفاً في صدري.. يقول: الست دي.. أمي! نعم.. بائعة الجرجير هي أمي التي لم تلدني! رأيتها كثيراً في طفولتي في حواري السيدة زينب ومصر القديمة.. مصرية بنت مصريين . جاءت من أقاصي الريف أو الصعيد. أو أحد أحياء القاهرة الشعبية. إنسانة من لحم ودم. عندها بيت وأولاد تجري عليهم. من أجل حياة شريفة. أو أي حياة والسلام. بائعة الفجل والجرجير.. الجالسة طوال النهار تحت قيظ الشمس والحر. أو برد الشتاء. الذي يضرب ظهور ومفاصل عواجيز الدنيا! وكلما أمعنت النظر في ذلك الوجه المؤثر. كلما تأكدت أنها أمي. التي حاربت ايضاً الفقر وشظف العيش. لكنها عاشت وعبرت كل ذلك. واعطت للدنيا ما هو أجمل من حياتها السودا! والست دي.. بائعة الجرجير.. أمي! لاتزال في مكانها هناك علي رصيف الحياة. في شبرا والسيدة وبولاق وعين شمس. مازالت تواجه الدنيا بالفجل والجرجير. والمصاعب من حولها لاتنقص ولاتزول. وانما تزيد وتتكوم يوماً بعد يوم فوق رأسها المثقل الحزين! تري ماذ تقول بائعة الفجل والجرجير.. داخل هذا الرأس المتعب؟ هي بكل تأكيد ورغم كل شيء. مازالت مصرية رغم أنف الدنيا والجميع. تحمل مصريتها في بطاقتها الشخصية.. ان كان لديها بطاقة. أو في »بطاقة التموين«.. ايضاً ان كان لها بطاقة. لكنها ستحمل جنسيتها بكل تأكيد في شهادة وفاتها! لم يكن ولن يكون لديها سوي جنسية مصرية واحدة. لانها ليست من كبار المسئولين أو حتي الوزراء. أو الفنانين أو رجال الأعمال. الذين أصبح كل واحد منهم يسعي ويفتخر بأنه صاحب جنسية أخري. امريكية أو بريطانية أو كندية. أو غيرها. المهم أن يكون لديه جنسية أخري أجنبية.. ستكون أفضل من وجهة نظره من الجنسية المصرية. مع أنه مصري أبن مصرية! وهؤلاء أعلنوا وأكدوا أنهم ليسوا.. مصريين! معظمهم فقد أي احساس بالولاء أو الانتماء لمصر. والوطن في عيونهم مجرد »فندق« يقيمون به أياماً.. ينهشون فيه.. ثم يسافرون ليعيشوا حياتهم في بيوتهم في سويسرا وأسبانيا! وهؤلاء .. مسئولون.. وكبار.. ومشاهير! ومن عجائب الدنيا انهم أكثر الناس صراخاً بأنهم وحدهم المصريون. وانهم وحدهم أصحاب الحق في الكلام عن مصر! وبائعة الفجل والجرجير.. أمي هذه لم تسمع في حياتها البسيطة. عن أمواج الفساد والفاسدين. الذين لم يرحموا مصر من لصوصيتهم. ونهبوا . ونهشوا. ولايزالون ولن يتوقفوا. حتي تكون عندنا »محكمة فساد« تحاسب هؤلاء الحرامية وتعاقبهم! وبائعة الفجل والجرحير هذه.. لم تعرف يوماً كيف تستفيد من الرشوة. وكل يوم والثاني. تطاردها شرطة المرافق. وتصادر الفجل والجرجير الذي هو لقمة عيشها! ليس عندها بالواسطة ابن يعمل في بنك اجنبي.. او شركة بترول.. بالكوسة لكي يقبض آلاف الجنيهات أول كل شهر! ليس عند بائعة الفجل والجرجير »كارت توصية« يفتح لها أبواب المسئولين.. ويعطيها موافقة علي شقة من شقق الأوقاف. أو قطعة أرض تستصلحها مزرعة وتبني فيها فيلا »علي القد«! و»الست دي«.. لم تسمع عن جماعة الأخوان المسلمين. وصراعها من أجل الوصول إلي السلطة.. ولم تسمع عن مراكز القوي الجدد من كبار رجال الاعمال! ولم تسمع عن أبطال هذه الأيام. الذين يريدون للبلد »أن تولع«. . ليقفوا فوق حطامها وأنقاضها واطلالها.. ليغنوا. هيه.. انا اللي حرقت مصر ! »والست دي«.. لم تلعب في البورصة! ولم تقرأ مقالات أبطال الورق.. زعماء الكلام! »الست دي«.. لم يهزمها اليأس ولا الاحباط حتي اليوم. ولن يحدث هذا ابداً. لأن.. »الست دي«.. أمي! مع الاعتذار لصديقي الكاتب الجميل يوسف معاطي - صاحب البرنامج الجميل »الست دي.. أمي«.