إعداد – أحمد حامد الجمال (يصدق على القرآن ما قاله فى الإنجيل العالِم اللاهوتى پيتر فيرنفلس Peter Werenfels: كلّ امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدّس وكلّ امرئ يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه ). وكان المقصد من هذه العبارة السابقة التى صدرها المستشرق اليهودي المجري "إيجناس جولدتسهير" (1850 – 1921) كتابه "مذاهب التفسير الإسلامى" أن: (كل تيار فكرى بارز فى مجرى التاريخ الإسلامى، زاول الاتجاه إلى تصحيح نفسه على النص المقدس، وإلى اتخاذ هذا النص سنداً على موافقته للإسلام، ومطابقته لما جاء به الرسول [صلى الله عليه وآله وسلم] وبهذا وحده كان [كل تيار فكرى] يستطيع أن يدعى لنفسه مقاماً، وسط هذا النظام الدينى، وأن يحتفظ بهذا المقام، وهذا الاتجاه [التيار] وتعاطيه للتفسير[القرآنى] كان بطبيعة الحال هو المنبت لكتابة تفسير مذهبى سرعان ما دخل فى طور المنافسة مع التفسير السطحى البسيط). أعيد طبع كتاب "مذاهب التفسير الإسلامي" لايجناس جولدتسيهر، ترجمة عبد الحليم النجار، تقديم ودراسة محمد عوني عبد الروؤف، ضمن سلسلة "إنسانيات" بمكتبة الأسرة التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب. ووفقاً لقراءة وعرض الباحث الإسلامى الشيخ حيدر حب الله "بتصرف وحذف مقدمات" أوردها الباحث عن المؤلف وعن الاستشراق، إذ لست بصدد مناقشة أو عرض الدراسات المتّصلة بالاستشراق ونتاجات المستشرقين، بقدر ضرورة عدم إغفال الوقوع أمام كتابات المستشرقين فى جدال معوق يكون منطلقه دفاعى مشحون بموقف عدائى غير عقلانى. (يصدق على القرآن ما قاله فى الإنجيل العالِم اللاهوتى پيتر فيرنفلس Peter Werenfels: كلّ امرئ يطلب عقائده فى هذا الكتاب المقدّس وكلّ امرئ يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه ). وكان المقصد من هذه العبارة السابقة التى صدرها المستشرق اليهودى المجرى «إيجناس جولدتسهير» (1850 – 1921) كتابه «مذاهب التفسير الإسلامى» أن: (كل تيار فكرى بارز فى مجرى التاريخ الإسلامى، زاول الاتجاه إلى تصحيح نفسه على النص المقدس، وإلى اتخاذ هذا النص سنداً على موافقته للإسلام، ومطابقته لما جاء به الرسول [صلى الله عليه وآله وسلم] وبهذا وحده كان [كل تيار فكرى] يستطيع أن يدعى لنفسه مقاماً، وسط هذا النظام الدينى، وأن يحتفظ بهذا المقام، وهذا الاتجاه [التيار] وتعاطيه للتفسير[القرآنى] كان بطبيعة الحال هو المنبت لكتابة تفسير مذهبى سرعان ما دخل فى طور المنافسة مع التفسير السطحى البسيط). أعيد طبع كتاب «مذاهب التفسير الإسلامى» مؤخراً لايجناس جولدتسيهر، ترجمة عبدالحليم النجار، تقديم ودراسة محمد عونى عبدالروؤف، ضمن سلسلة «إنسانيات» بمكتبة الأسرة التى تصدرها الهيئة العامة للكتاب. ووفقاً لقراءة وعرض الباحث الإسلامى الشيخ حيدر حب الله «بتصرف وحذف مقدمات» أوردها الباحث عن المؤلف وعن الاستشراق، إذ لست بصدد مناقشة أو عرض الدراسات المتّصلة بالاستشراق ونتاجات المستشرقين، بقدر ضرورة عدم إغفال الوقوع أمام كتابات المستشرقين فى جدال معوق يكون منطلقه دفاعى مشحون بموقف عدائى غير عقلانى. يبدأ جولدتسيهر رحلة التحليل فى مذاهب التفسير الإسلامى من عصر الصحابة الذين عاصروا النبى وخلفوه من بعده إلى عدةٍ من العقود. ولم يجد جولدتسيهر أمامه بذوراً بدائية لعملية التفسير القرآنى فى تلك الحقبة تنبؤه عن منهج أو آليات أو أنماط أوّلية عدا ظاهرة القراءات فيما يبدو، فركّز عليها بوصفها مظهر التفسير القرآنى فى مراحله الأولى صدر الإسلام. ولسنا نستهدف فى تقييم تحليل جولدتسيهر هنا الدفاع عن النص القرآنى الذى يؤكّد «جولدتسيهر» أن ظاهرة القراءات تحكى عن وجود اضطراب فى نصّه، بقدر ما يعنينا ربطه بين القراءات والتفسير. القراءات والتفسير القرآنى يخضع جولدتسيهر ظاهرة القراءات لتحليل يخرج فيه بنتيجتين كحصيلة لمجمل كلامه: 1 – الأساس العربى لظاهرة القراءات، فالنص العربى ومنه القرآنى لم يكن مشكلاً ولا منقطاً، وعليه فقد كان يتحمّل أكثر من وجه. 2 – العوامل الموضوعية لتكوّن ظاهرة القراءات، وهذا ما يسهب «جولدتسيهر» فى شرحه وحشد الشواهد التاريخية له، نذكر منها: أ – آية الوضوء (المائدة:6) التى أخضعت فى التاريخ الإسلامى لتوليد قراءات (الكسر والفتح لرؤوسكم) نتيجة تأثير الفقه على النص القرآنى، ومعنى ذلك أن ظاهرة القراءة المتعدّدة كانت سلاحاً ابتكره المتخاصمون فى الفقه حول آية الوضوء لتأكيد كل طرف لمدّعاه. ب – آية المتعة (النساء:24)، التى زادت بعض القراءات جملة (إلى أجل مسمّى) فيها تأكيداً للعامل الموضوعى. ج – وعلى غرار الفقه، كان الكلام أيضاً، فقد أخضعت آيات من نوع (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:3)، و(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) (الصافات:12) بضم التاء أو فتحها، وآيات المائدة (المائدة:112 115)، وهكذا كان تعظيم النبى وتبجيله عاملاً موضوعياً آخر ساهم فى إنتاج قراءات جديدة للنص القرآنى... وبهذا حاول «جولدتسيهر» أن يثبت القول بأنّ القراءات كانت تفسيراً للقرآن لا محاولةً لقراءته فحسب كما توحى به الاتجاهات المدرسية، والنتيجة المستدعاة تلقائياً هنا تعود إلى النص القرآنى نفسه، إذ سيغدو نصاً غير ملزم بصيغته إلى الحد المتصوّر، ومعنى ذلك وجود حرية فردية تفسح المجال لتعديله وفقاً لفهوم المفسّرين، وهذا هو المطلب الأساسى، ونتيجته ظهرت اتجاهات ثلاثة إزاء هذا النص وحرفيّته، أخذ أحدها بمبدأ الحرية الكاملة فى تعامله مع النص، وكان ابن مسعود أشد من أحدث تغلغلاً فى تغييرات النص القرآنى، فيما بدا الآخر متحفظاً جداً مثّله «على»، ليعتدل فريق ثالث لتولّد وسطيته هذه علم القراءات فيما بعد بشكل رسمى انطلاقاً من حديث (الأحرف السبعة). وبهذا نجح جولدتسيهر فى إسقاط نمطيات الاستشراق على ظاهرة القراءات، إذ بدا الفريق الأوّل ثائراً متحرّراً عقلانياً، فيما مثل الفريق الثانى التيار المحافظ المتشدد، ليوضع فريق الاعتدال كفئة هدفت وقف تدهور النص فى الوسط الإسلامى. وفى صورة كهذه تبدو ظاهرة القمع، قمع علماءَ اللغة العربية فى تناولهم للنص، وما يعطيه خلاف المبرّد والزمخشرى فى قوله تعالى: (لكنّ البرّ) من دلالات. وأمام هذه الصورة التى يرسمها «جولدتسيهر» عن البدايات الأولى للتفسير، عصر الصحابة، وقريب منه تستوقفنا ملاحظة ناقدة، ذلك أننا لا نملك عن تلك الحقبة الزمنية ونحن نتماشى هنا مع جولدتسيهر نفسه معلومات واضحة على هذا الصعيد وما أشبهه، وبالتالى فالشواهد التى ذكرها لا تصنع قناعةً بوجود عامل موضوعى، زائد على عامل منطقى مترقّب يمكن تقديمه كافتراض ومن ثم الدفاع عنه، ألا وهو عدم تشكيل القرآن وتنقيطه، وتعدّد لهجات العرب، كيف أخذ جولدتسيهر بهذه الشواهد رغم أنه لم يرها إلا فى الكتب التى ظهرت فى النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى وما بعده، وهو نفسه لا يجد فى هذه الكتب نقلاً دقيقاً وصحيحاً؟! إن جولدتسيهر مطالب بتفسير تبنّيه لهذه المجموعة من الشواهد التاريخية رغم تحفظه الشديد على ما ينقل عن تلك الحقبة عن رسول الله، ومن ثم نستطيع أن نجد ما يعزز احتمال اختلاق هذه النصوص من الفئات المتصارعة التى ظهرت لاحقاً. متى ظهرت الخلافات الفقهية الحقيقية حول الوضوء والمتعة وغيرها؟ بل متى ظهر الخلاف الكلامى حول شخصية النبى وصفات الله سبحانه؟ أليس من المنطقى أكثر افتراض أن الأجيال اللاحقة هى التى اخترعت هذه النصوص عن الصحابة سيما فترة التحزبات التى طالت القراءات لتنتصر لعقائدها واتجاهاتها الفقهية والكلامية؟ هل يعتقد «جولدتسيهر» أن الخلاف فى نسبة التعجّب إلى الله كان يمكن أن يشق طريقه فى النصف الأول من القرن الهجرى الأوّل، وأكثر من ذلك، هل كان فى وعى تلك المرحلة ظاهرة بهذه السعة لإسقاط العقديات والفقهيات على النص القرآني؟ وإذا كان هذا الاحتمال موجوداً، أفلا يكون الاحتمال الآخر أكثر منطقية وأكثر انسجاماً مع الأصول المنهجية التى سار ويسير عليها المستشرقون ومنهم جولدتسيهر؟ بهذه الاستفهامات، ربما أمكننا التشكيك فى الصورة التى قدمها جولدتسيهر عن بدايات التفسير الأولى، مستبعداً تفسير ابن عباس ونصوصاً للصحابة. (قصّة آية الكلالة الواردة فى سورة النساء: 176) ترجّح أن عمليات التفسير الأولى كانت تتجه نحو فهم بعض المفردات غير الواضحة لدى كل العرب فضلاً عن غيرهم، وهذا ما يوضح أسباب الظهور المبكر لعلوم غريب القرآن والحديث فى الوسط الإسلامى، كما أن هذا هو ما يفى بالتحليل المنطقى لتلك الحقبة، فإن اتساع رقعة الإسلام وحكومته يفرض طبيعةً تعدداً فى قراءة النص القرآنى لعدم كونه منقطاً ولا مشكلاً، كما يفرض استفهامات أوّلية وبدائية عن مفردات جديدة على المسلمين الجدد، بعيداً عن خلافات فكرية عميقة تدعو إلى إسقاط على النص. التفسير والمكوّنات الأولى إشكالية العقل والنص الثانى يشرع جولدتسيهر متخطياً مرحلة البدايات الأولى للتفسير مع القراءات، بتحليل مفترق الطرق الذى دخله التفسير بعد ذلك، ويؤكّد على أنّ حركة التفسير كان ينظر إليها فى البداية بعين الريبة، وأن الوعى الجاد كان يتراجع عن إقداماته خوفاً ومهابة. ويعتقد جولدتسيهر بعودة سياسة محاربة التفسير (الذى يقصد به استخدام العقل فى فهم النص القرآنى دون مرجعية من نص مأثور) إلى زمن عمر بن الخطاب مستشهداً بقصته مع صبيغ وشواهد أخرى عن تلك الحقبة، لكن جولدتسيهر يقرّ بتجربة تفسيرية يقيمها من جهة على منهج خرافى أسطورى مستقى من أهل الكتاب مع سوء فهم وخلط بيّنين، أدّيا إلى ظاهرة القصاصين فى المجتمع الإسلامى، فيما يبنيها من جهة ثانية على النصّ المأثور عن النبى والصحابة، ففى بدايات القرن الثانى الهجرى كان الصحابة مرجعاً تفسيراً. وبهذا يبدو التفسير بعلم، هو التفسير بالمأثور، ومن ثم هو لا حرية التفسير فى الإسلام إلى زمن الطبرى الذى قدّم بداية محاولات خجولة جسّرت بين التفسير بالمأثور والتفسير العقدى، الأمر الذى جعله يبدو فى غاية الأهمية عند جولدتسيهر. وتأسيساً على ما تقدّم، يلاحظ جولدتسيهر أن المأثور فى تفسير القرآن لم يكن واحداً، وبهذا يحق له الجمع بين استنتاجين: أحدهما: أن التفسير العلمى هو التفسير بالمأثور وثانيهما: أن التفسير بالمأثور كان مضطرباً سنداً وخاضعاً لموجات عاتية من الجعل والتكذيب والاختلاق، وبهذين الاستنتاجين لن يكون التفسير بعلم غير الاعتماد على مصدر موثوق هو الأخبار التى عرفت حالها. هذه هى الصورة ببالغ الإيجاز التى يرسمها جولدتسيهر لتلك الحقبة، ولدى تحليل هذه الصورة تستوقفنا أمور: أولاً: كيف اعتقد جولدتسيهر بامتداد تاريخى لمحاربة التفسير إلى زمن عمر بن الخطّاب، رغم أن النص والشواهد التى تؤكد هذا الامتداد تبدو واضحة التوظيف من الجماعات التى قال جولدتسيهر إنها حاربت التفسير فى أواخر القرن الأول الهجرى وما بعد؟ فلماذا لم تكن هذه الشواهد مختلقة ونحن ما زلنا نحكى عن معركة آراء حول مشروعية التفسير فى الحقبة الثانية؟ وعليه، يفترض أن نغض الطرف عن مرحلة الصحابة فى أنها حاربت التفسير أو لا، خصوصاً وفقاً للمنحى المتردّد عموماً إزاء أخبار تلك الحقبة كما يراه جولدتسيهر. ثانياً: ثمّة ما يوحى بالتناقض المنهجى عند جولدتسيهر، فقد أرتأى فى دراسته الأولى أنّ ظاهرة القراءات لم تكن سوى نتاج تفسيرى من جانب الصحابة، وهذا معناه أنّ الصحابة استخدموا فقهياتهم وعقائدياتهم لفرضها على النص القرآنى على شكل قراءات، فكيف يمكن أن نجمع بين هذه المقولة، وبين الحديث عن تفسير عقدى مع الطبرى، وندّعى بأن التفسير كان محارباً حتى لا أقل النصف الأول من القرن الثانى الهجري؟! ثالثاً: لماذا أخذ جولدتسيهر بحادثة «صبيغ» ليتّهم عمر بن الخطاب بمعاداة التفسير، ولم يأخذ تلك الروايات التاريخية التى تفيد عن أسئلة وجهها عمر على الناس حول مفردة قرآنية أو آية مع ذكر جولدتسيهر لها، وكذلك تلك التى يتراجع فيها عمر عن موقف فقهى أمام شخص آخر حتى لو كان إمرأة يقدم له آية فى عمليّة تستبطن تفسيراً؟ إن انتقاء النصوص التاريخية لا يقدّم صورة واضحة المعالم عن تلك الحقبة. رابعاً: إذا كان الصحابة قد مارسوا عملية التفسير مسقطين عقائدهم وفقهياتهم فلماذا توقفت الظاهرة إلى ظاهرة معاكسة فى حقبة زمنية قصيرة، ومن قبل التابعين أنفسهم؟ وهذا الأمر وإن كنا نعتقد بإمكانه، غير أن جولدتسيهر مطالب فى تحليله لتطوّر مسار التفسير بشرح هذه الظاهرة بصورة واضحة، فهذه ملاحظة غير ناقدة بقدر ما تشير إلى نقص فى عملية التحليل. خامساً: مع الاعتقاد بأن إعادة تدوين الحديث بدأت مع حكم عمر بن عبدالعزيز (99 101 ه)، وأن العودة العملية للتدوين تأخرت عنه قليلاً على الصعيد الرسمى، ومع الاعتقاد بأن ظاهرة التدوين الشخصى كانت موجودة فى القرن الهجرى الأوّل ولم تكن مختصة بشخص أو شخصين، إلا أن الطابع العام الغالب على الحياة العلمية للمسلمين كان حظر تدوين الحديث، والمفترض فى عملية تحليل هذه الظاهرة أن تكون المرجعية لصالح النص القرآنى وفقاً لفهم العرب (والصحابة أكثرهم). على خط آخر، يمكن أن نفهم مرجعية الحديث فى تفسير القرآن على رأس المائة الأولى وما قبله وما بعده بقليل، على أنه انبهار بعودة الحديث وهو انبهار مترقّب إلى عقود قليلة، ومن ثم كان من الأفضل أن يدخل جولدتسيهر هذه الظاهرة فى تحليله كعنصر لإعادة الاعتبار إلى الحديث، لتكون محاربة التفسير ظاهرة آنية وفقاً لما رسمه هو نفسه كما أشرنا، لا ليكون العقل مستبعداً إلى زمن المعتزلة، ومن ثم ليعطى الاعتزال طابع مجابهة النص، وتكون المحصلة تناقضاً تاريخياً بين النص والعقل. سادساً:لا يمكن لأحد أن ينفى فى أيّ دين من الأديان وجود تيارات نصيّة حرفية متزّمّتة محاربة للعقل، والأمر فى الإسلام التاريخى كان كذلك، بعيداً عن تحديد التيار الغالب، لكن من المفترض تحليل الدوافع التى أدّت إلى اتخاذ مواقف محاربة للتفسير (بعد افتراض ذلك) الأمر الذى نجده فى مجموعة أمور لعل أهمّها: أ – المنحى الحرفى فى العقل الدينى فى تعامله مع النص. ب – محاربة ظاهرة القصّاصين من جانب الصحابة والتابعين حتى أزمنة متأخرة مع الغزالى والسيوطى وغيره، وقد أقرّ جولدتسيهر بمحاربة الصحابة لظاهرة القصّاصين، وبالتالى فمن الممكن أن تكون محاربة التفسير محاربة لأبرز مظاهره التى تجلّت مع القصّاصين وغيرهم، وهذا معناه أن المحاربة التاريخية للتفسير آنذاك كانت حرباً على الأسطورة والخرافة، وجولدتسيهر يقرّ بأنّ التيار المحافظ حارب هو الآخر الأسطورة والخرافة إلى جانب المعتزلة الذين أضفوا لباساً عقلانياً على الآيات الدالة على السحر والعين والجن وكرامات الأولياء. ج – مع الخوارج كتيّار مذهبى لا سياسى فقط ومن تلاهم من فرق واتجاهات بدت ظاهرة الإسقاط العشوائى على النص القرآنى، ولعل التيار المحافظ شعر بفوضى التفسير فأراد إعادة تقنينه، فلم تكن ثمة وسائل عدا اللغة و«النص الثانى» للحصول على شىء موثوق، وإذا لم يكن «النص الثانى» موثوقاً عندنا بعد نقد داخلى وخارجى له استمر زمناً طويلاً، فإن الأمر لم يكن كذلك فى تلك العصور وبهذا الوضوح حتى نحمّل قناعاتنا تلك الحقبة. سابعاً: اعتقد جولدتسيهر بأنّ المكانة السامية المعطاة لابن عباس فى تفسير القرآن، ليست سوى وهم صنع له فيما بعد، وهدف جولدتسيهر من ذلك واضح، وهو إفراغ القرن الأوّل الهجرى من ظاهرة التفسير، لأن المعروف أن التفسير المدوّن لم ينسب إلى أحد عدا ابن عباس، فقد كتب يحيى بن يَعمر (م89 أو 90ه) كتاباً أسماه: (كتاب فى القراءة) وهو ليس تفسيراً، والعلوم القرآنية ظهرت بعده مع الحسن البصرى (110 ه) وزيد بن على (122 ه) وابن شهاب الزهرى (124ه)، وإسماعيل بن عبدالرحمن السدّى (128 ه) وعطاء الخراسانى (135 ه) وأبان بن تغلب (141 ه) وغيرهم، ممن يعود إلى القرن الثانى الهجرى. ولم يكن سوى ابن عباس الذى نسبت إليه كما يذكر فؤاد سزكين كتب أربعة فى القرآن هى: 1 – غريب القرآن 2 – مسائل نافع بن الأزرق 3 – اللغات فى القرآن 4 – تفسير ابن عباس ورغم تشكيك الدكتور حسن محمد تقى الحكيم (محقّق كتاب تفسير غريب القرآن لزيد بن على) فى تدوين ما نسب إلى ابن عباس على شكل كتاب، وتشكيك بعض الباحثين المعاصرين فى مكانة ابن عباس واعتبارها اختلاقاً عباسيّاً لمواجهة العلويين، إلا أنّ الشيء الذى يمكننا استبعاده فى ابن عباس هو الصورة المكبّرة له فى النصوص التاريخية، والهالة الأسطورية التى نسجت حوله، أمّا أساس تصدّيه للتفسير (دوّنت كتبه أو لا) فهو أمرٌ يحتاج التشكيك به إلى شواهد أكثر لا مجال لبحثها هنا ومناقشتها، لا أقلّ من أنّ محاولات توظيف صغر سنّه زمن حياة النبى لا تنفع إلا فى التوقّف قبال رواياته، لا تجريده من محاولات تفسيرية اعتمد فيها على العقل أو على لغة العرب وأشعارها.