«كأن الطيب يعرف بأنه لا يملك من العمر إلا القليل، لذلك كان أغزر مخرجي جيله، وقدم في أقل من خمسة عشر عامًا، واحدًا وعشرين فيلمًا سينمائيًا، جميعها أفلام تسعى إلى الصدق الفني، وتتطرق إلى الواقع، وتهتم بالمواضيع التي تعبر عن الإنسان البسيط، وتناقش ذلك الواقع الصعب الذي يحيط بهذا الإنسان».. هكذا قال الكاتب والناقد البحريني حسن حداد. قدم "حداد" للمكتبة العربية كتاب «عن ثنائية القهر.. التمرد في أفلام المخرج عاطف الطيب»، أنجز هذا الكتاب في الفترة ما بين أغسطس 1995 وديسمبر 1995، لتصدر الطبعة الأولى في مارس 2000، ضمن طبع مطبوعات وزارة شئون مجلس الوزراء والإعلام بدولة البحرين، بإخراج فني لأحمد الحجيري، وغلاف من تصميم أنس الشيخ. الكتاب جاء في فصلين، الفصل الأول، تناول بالنقد والتحليل أفلام عاطف الطيب، والثاني كان رؤية نقدية في الأسلوب السينمائي لعاطف الطيب، من خلال تناول ثنائية القهر/ التمرد، محاولاً تقديم دراسة تجربة المخرج السينمائية، والبحث عن الرؤية الفنية التي جسدها في أفلامه، مناقشاً ما قدمه هذا المخرج من أفكار ومضامين، كانت بالطبع سبباً لشهرته كمخرج، وبروزه كفارس مغامر من فرسان السينما المصرية الجديدة، وفي هذا الصدد تناول حداد تلك الثنائية من خلال الموضوع والسيناريو والحوار والزمن والمكان والإخراج، والعناصر الفنية والتقنية الأخرى، فيما ختم الكتاب بملحق حمل ببلوغرافيًا لأفلام عاطف الطيب. نتناول من خلال قراءة الكتاب، رؤيته النقدية لعدد من أفلام الطيب: فيلم الغيرة القاتلة «1981» «نور الشريف، نورا، يحيى الفخراني، سعاد نصر، سيناريو وحوار: وصفي درويش، تصوير: سعيد شيمي، موسيقى: ميشيل المصري، مونتاج: نادية شكري، إنتاج: أبيدوس فيلم» باكورة أفلام المخرج، إلا أنه لم يعرض جماهيريًا إلا بعد عرض فيلمه الثاني، والفكرة الأساسية لفيلم (الغيرة القاتلة) مأخوذة عن مسرحية عطيل لشكسبير، والتي تدور -كما هو معروف- حول طبيعة الغيرة ومن ثم بروز بذور الشك لدى صاحبها، والغيرة المعنية هنا، هي الغيرة اللاطبيعية التي تقود الإنسان إلى حدود التدمير العاطفي والجسدي. وفي فيلم عاطف الطيب هذا، يقوم نور الشريف بدور عطيل ونورا بدور زوجته ديدمونه ويحيى الفخراني بدور ياجو، إلا أن الفيلم يصور الغيرة القاتلة بين نور ويحيى، أكثر مما يصورها بين نور ونورا، أي أن الثلاثي في مسرحية شكسبير هو نفسه في فيلم عاطف الطيب، إلا أن العلاقات فيما بينهم قد تغيرت، لتصبح الغيرة بين الزوج والصديق. لذلك بدت صورة عطيل (الزوج) مهلهلة إلى حد السذاجة، وصورة ياجو (الصديق) متدفقة بالشر إلى حد الصورة الثأرية، هذا إضافة إلى أن السيناريست (وصفي درويش) قد تغافل عن تقديم المبررات المنطقية للغيرة وللحقد الدفين الذي يختزنه الصديق تجاه الزوج (صديقه)، والذي يملي عليه طوال الفيلم بأن يسلك سلوكاً مضاداً لشخصية صديقه، فارضاً صورة الشر منذ البداية. والفيلم في شكله الدرامي هذا، لا يخرج عن نطاق السينما التقليدية المصرية، فهو يسعى لعناصر الجذب الجماهيري ، كما أنه لا يمس الأزمات الحقيقية للمجتمع إلا مساً سطحياً، وبالرغم من أن فيلم (الغيرة القاتلة) قد أخفق بسبب ضعف السيناريو الذي استند عليه، إلا أنه يتميز في عناصر صناعته السينمائية، من تصوير ومونتاج وغيرها، فالفيلم متقن إلى حد ما ومحبوك في صنعته الفنية والتقنية. إضافة إلى أنه تميز بإيقاع سريع وحيوي تتقاطع فيه الخيوط الدرامية وتتوازن، كما احتوى الفيلم على لقطات ونقلات عديدة متناثرة ذات استعارات سينمائية ودلالات رمزية موفقة، ولا يمكن أن نغفل ذلك الريبورتاج السينمائي الذي نجح في تنفيذه المخرج مع المونتير، وذلك عندما قدما لنا في المقدمة، وفي لقطات سريعة، شرحاً بالصور الفوتوغرافية فقط تاريخ العلاقة بين الصديقين منذ الصغر. فيلم سواق الأتوبيس «1982» «نور الشريف، ميرفت أمين، عماد حمدي، صفاء السبع، نبيلة السيد، وحيد سيف، سيناريو وحوار: بشير الديك، قصة: محمد خان، تصوير: سعيد شيمي، مونتاج: نادية شكري، موسيقى: كمال بكير» يتناول فيلم (سواق الأتوبيس) ذلك التفكك الأسري والتفسخ الأخلاقي إزاء التغير المفاجئ في العلاقات الاجتماعية في عصر الانفتاح، والفيلم لا يعتبر من أهم أفلام الانفتاح فحسب، وإنما يعد علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية، ويكفي أنه اختير من بين أهم عشرة أفلام قدمتها السينما المصرية على مدى تاريخها الطويل، هذا إضافة إلى حصوله على عدة جوائز، أهمها جائزة التمثيل الذهبية لنور الشريف في مهرجان نيودلهي السينمائي الدولي. نحن أمام شخصية ندر تناولها في السينما المصرية من قبل ، فحسن شاب أنضجته أربع حروب خاضها بالتوالي ، حرب اليمن وحرب 67 ثم حرب الاستنزاف وحرب 73، وبالتالي فهو شاب عاش أجمل سنوات عمره بين البارود والنار يواجه الخطر في كل لحظة، وبعد عودته إلى أهله، كان عليه أن يخوض حباً أخرى حياتية. سر نجاح الفيلم هو أنه يحدثنا عن الأشياء العادية التي يتصور البعض بأنها ليست موضوعاً للسينما، ثم أن الفيلم قد تحدث عنها بمرارة وبوعي وصدق وحرارة، دون الوقوع في المباشرة، لذلك فإننا نظل مشدودين في متابعة الأحداث حتى النهاية، وقد لا يختلف اثنان على أننا أمام فيلم ينتقد بقوة ذلك الخراب الذي حل بالإنسان المصري العادي في عصر الانفتاح. فيلم التخشيبة «1984» «نبيلة عبيد، أحمد زكي، حمدي الوزير، سعيد عبدالغني، تأليف: وحيد حامد، تصوير: سعيد شيمي، مونتاج: نادية شكري، موسيقى: مصطفى ناجي، إنتاج: جلال زهرة» يقول الطيب: تحمست للتخشيبة وانتهى عام الحيرة، وعدت للعمل بحب كما بدأت، وكم أتمنى ألا يعقد النقاد أو الجمهور مقارنة بين سواق الأتوبيس وكل فيلم جديد لي، لأن كل فيلم يعبر عن مرحلة يعيشها المخرج والكاتب، وكل فيلم له مقاييسه وظروفه وكل ما أتمناه أن يحاسبوني على مدى ارتباط أعمالي بالواقع، ومدى تعبير الكاميرا وحركات الممثلين عن الموضوع الذي يطرحه الفيلم، واعتقد بأن التخشيبة قد توافرت فيه هذه العناصر. الفيلم في نصفه الأول ذو إيقاع سريع موحٍ ومناسب للتفاصيل التي تتعرض بالنقد للإجراءات الروتينية التي تتعرض لها الطبيبة داخل قسم الشرطة وخارجه، فقد تبدت مهارة السيناريست وحيد حامد في تجميعه لأغرب مواد القانون والإجراءات الحكومية ليصنع منها ما يشبه بيت العنكبوت الذي يلتف حول الضحية ليزهق أنفاسها، كما نجح السيناريو في الاحتفاظ بعنصر التشويق في بناء الأحداث، فكان النصف الأول من الفيلم مغلفًا بالغموض والتوتر، فالفيلم لا ينفي ولا يؤكد ما إذا كانت الطبيبة بريئة أم مذنبة، إنما يدع المتفرج يلهث وراء الأحداث. إن المتفرج هنا، يبدو مشوشاً، تماماً كالطبيبة والمحامي، ولكن في سبيل تحقيق هذا الهدف، فقد ضحى السيناريست بالتعمق في جزئيات هامة، كأن يقترب مثلاً من معانات المحجوزين داخل التخشيبة، فهناك بالقطع نماذج إنسانية تستحق التوقف عندها. كما أنه ضحى بالتعمق في موقف المجتمع من إنسانة تجد نفسها فجأة متهمة في سمعتها وشرفها، واكتفى فقط برسم تلك الشخصيات الثانوية السطحية التي تعلن موقفها الاجتماعي من الضحية بشكل متسرع ودون أية مبررات منطقية، وكأن السيناريست قد تعمد بأن يلغي كل هذه الشخصيات من حول بطلته، حتى تواجه مصيرها بمفردها. الفيلم قد وقع في الخلط بين قضيتين، الأولى نقد هذه الإجراءات، والثانية المطالبة بوضع خاص لهذه المرأة بحكم مهنتها كطبيبة متعلمة وبنت ناس، وهذا مما جعل الفيلم يفقد أرضيته الاجتماعية ليتحول إلى قضية خاصة وفردية، ويتأكد ذلك في النصف الثاني من الفيلم، حيث أصبحت تلك الإجراءات التي أدانها الفيلم في نصفه الأول، إجراءات سليمة وضرورية بالرغم من تعقيدها.