اتخذ من العقل منهجًا في البحث والتأويل؛ ليتصدى لما قاله المتكلمون عن توافق المنقول والمعقول، وسار على ضوء القياس العقلي ليكون برهانًا على قوله تعالى "أفلا يتدبرون.." "أفلا يتذكرون.." "أفلا يعقلون..". هو ابن رشد، الذي استند إلى مرجعية فكرية أوقدت لديه شعلة تحررية ناطح بها زعماء الفلسفة الإسلامية، وتصدى لدعاة الغلو والتشدد. ساهم انكبابه على منهج أرسطو في تكوين فكره إلى حد كبير، فقد ترجم أعماله، وظل مفتتنًا به وبأفكاره حتى أطلق عليه الرجل الأكثر كمالًا، ومن ثم انطلق ابن رشد في قولبة الشريعة الإسلامية وتطويعها لفكر أرسطو، وهو ما حاوله كثير من الفلاسفة المسلمين، أي التوفيق بين الحكمة والشريعة، لكن ابن رشد جاء منفردًا في هذا الباب، حتى إنه اتهم من قِبَل بعض الفلاسفة قبل العامة بالزندقة والكفر، ورغم ذلك ظلت مسألة الوفاق بين الفلسفة والدين، هي شغله الشاغل غير مكترث بما يصدر عن خصومه. وأكد ابن رشد أن الشريعة تدعو إلى التأمل والتدبر وتوجب النظر الفلسفي واستعمال البرهان المنطقي لمعرفة الله، والبرهنة على وجوده من خلال موجوداته، وسلم أيضًا أن الشريعة وإن كان الوحي مصدرها، فهي لا تخالف العقل ولا تناقضه، فالعقل يخالطها، والشرائع العقلية الوضعية المجردة من الوحي تكون أنقص من الشرائع السماوية التي استنبطت من العقل والوحي، حيث يقول: فكما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه في الأحكام وجوب معرفة المقاييس الفقهية على أنواعها، كذلك يجب على العارف أن يستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي". والشريعة لديه هي صناعة مدنية ضرورية للاجتماع، تأخذ مبادئها من العقل والوحي معًا، وتتضمن توجهًا تربويًّا أساسه تربية الفرد حتى يغدو صالحًا، يعمل على بلوغ كماله الإنساني، ويسعى لتحصيل سعادة نفسه وجماعته، في حياته الدنيوية والأخروية. فهي ضرورية لتحصيل الفضائل الخلقية للإنسان. وهذه الفضائل لا تتمكن إلَّا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة. ويقدم ابن رشد لذلك مثلا بالصلاة التي هي ليست مجرد ركوع وسجود، بل لها بعد تربوي يتجلى في نهينا عن الفحشاء والمنكر. أما الفلسفة، "فهي تنحو نحو تعريف سعادة بعض الناس العقلية. وسبيل ذلك تعلم الحكمة. وهي لا تتوجه للجمهور وعموم الناس، بل تقصد بخطابها فئة خاصة من الأفراد القادرين على استيعابها، وهذا الصنف الخاص من الناس إنما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف العام، لذلك فالتربية الشرعية ضرورية وأساسية؛ لأنها تنشئ الأفراد عامة على الفضائل الشرعية، وتحقق تعليمًا عامًّا وضروريًّا، للفئة الخاصة الحكيمة. لم تأخذ هذه الفكرة حيزا كبيرا في الكتابات الفلسفية الإسلامية حتى جاء ابن رشد فآخى بين الفلسفة والدين، وخصص كتابًا يناقش فيه هذه المسألة، وهو "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال". يرى ابن رشد أن الفلسفة ليست شيئًا أكثر من النظر الثاقب والتأمل الفاحص في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، ويشير إلى أن الشرع قد ندب إلى هذا وحث عليه فى مواضع شتى من كتاب الله، لكن ابن رشد جعل النظر بالعقل فى الموجودات الذي أوجبه الشرع هو منطق أرسطو فيقول: "وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل فى الموجودات واعتبارها، والاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس العقلي، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي". وقد أثار هذا الطرح حفيظة العديد من الفلاسفة الإسلاميين قبل العامة فعملوا على هدم منهجه ووأد أفكاره، لكنها استعصت على الاندثار إلى يومنا هذا. إن ابن رشد هو أول فيلسوف مسلم تقدم بجرأة محاولًا التوفيق بين الدين والعقل بطريقة برهانية علمية في آن، حيث أن من سبقوه كانوا يكتفون فقط بالإشارة إلى التوفيق بين العقل والدين، دون أن يبذلوا ما يحسب لهم في هذا الصدد.