تحتضن العالم، مليحة في خمار أسود، وكأن ابن الرومي قصدها في قوله «ليسَ به عيبٌ سِوَى أَنَّهُ لا تَقَعُ العَيْنُ على شبههِ»، وأقول لكم فيها شعرًا لبدر شاكر السياب، كأنه كان يصفها «مطر مطر مطر/ في كلّ قطرة من المطرْ/ حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ/ وكلّ دمعة من الجياع والعراة/ وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ/ فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد/ أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ/ في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة/ ويهطل المطرْ». إفريقيا، القارة التي توسطت العالم القديم، ظلت حتى منتصف القرن العشرين، مسرحًا للتنافس الاستعماري، سيطرت عليها أوروبا واستغلت مواردها، ومنذ استقلال بلادها تعددت محاولات تحقيق الوحدة بين شعوبها، وفي مثل هذا اليوم عام 1958، كانت أقدم المحاولات الرسمية لعقد مؤتمر إفريقي للوحدة «مؤتمر أكرا»، ضم ما يزيد على 200 عضوًا، يمثلون مختلف الأحزاب والاتحادات الطلابية والنقابات العمالية في مختلف أنحاء القارة. ليس الهدف مما تقرأ إحياء ذكرى «أكرا»، لأن كاتب هذه السطور يسعى لإحياء الأحلام الوحدوية بداخلك، ستشعر بالإحباط في كثير من المواضع، ولعله ينجح ويدفعك إلى البحث عن جذور القصية، إذ نسلط الضوء على كتابات بحثت في الاتجاهات الأيديولوجية للوحدة الإفريقية، رصدت مشاكلها، وقدمت رؤى مستقبلية في إطار العلاقات السياسية الدولية. في قراءة تاريخية للدكتور الريح حمد النيل أحمد الليث، عميد آلية تنمية المجتمع بجامعة النيلين، عنوانها «القارة الإفريقية وقضية الوحدة السياسية»، تناول في أحد مباحثها موضوع الجذور التاريخية لفكرة الوحدة، قائلًا: مرت فكرة الوحدة بعدة مراحل، أولها مرحلة وحدة اللون والقهر التي بدأت منتصف القرن التاسع عشر، خارج أفريقيا، إذ نادت بعودة الزنوج إلى القارة السمراء، الأمر الذي واجه الرفض من بعض التيارات، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة المؤتمرات التي عقدت بعنوان "مؤتمر الجامعة الإفريقية"، والتي طغت فيها فكرة الزنجية كفكرة قومية عنصرية على آراء المثقفين، لذلك ركزت قرارات هذه المؤتمرات على مناهضة التمييز العنصري. التوجه الحقيقي نحو الوحدة بدأ بتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، ثم تأسيس اتحاد إفريقي، لتظهر بعد ذلك فكرة وجود ولايات متحدة إفريقية على غرار نظيرتها الأمريكية، أو حتى الاتحاد الأوروربي كنموذج للمحاكاة، إلا أن التوتر في العلاقات الثنائية والحدود الاستعمارية فضلًا عن الحروب الأهلية والنزاعات، ظلت كلها أسباب بقاء الوضع على ما هو عليه بل أسوأ. حسن لاشين، المعني بالشؤون الاقتصادية وقضايا التنمية الإفريقية بوزارة التعاون الدولي، في تقديمه لكتاب «إفريقيا: في إطار منظمة الوحدة الإفريقية والاتحاد الإفريقي..دراسة مستقبيلة»، وهو دراسة تحليلية وثائقية مطولة، للدكتور عادل عبد الرازق، انتقد مجالس ومنظمات الوحدة الإفريقية، إذ بيَّن أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد الأفريقي تحول إلى مجرد منتدى لممثلي المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وهو الأمر –بوصفه- الذي أدى إلى أن تكون توصياته مجرد أوراق لا يلتفت إليها أحد، على عكس الحال الذي كان عليه وقت أن كان تابعًا لمنظمة الوحدة الإفريقية، كما أن الآليات والأجهزة الأخرى، كالبرلمان الإفريقي مثلًا تعاني من الصفة الشكلية وليس الفاعلة، تحت وطأة ما تعانيه من رؤى مختلفة ومتباينة للدول الإفريقية، حول ماهية وشكل هذا البرلمان. «لاشين» يؤكد بكلامه أن الاتحاد الأفريقي نسى قضايا القارة المتعلقة بالتنمية المستدامة وإشكالياتها وتحدياتها، لتقتصر الصورة على اهتمامات سياسية فقط، حتى أنه لم ينجح في حل أية مشاكل سياسية بين أعضائه، كما هو الحال بين السودان وتشاد، بقوة دفع ذاتي، بل إملاءات من خارج القارة، كما حدث في مشكلة جنوب السودان. أزماتنا أكثر من توقعاتنا، وتظل أزمة التنوع الإثني مهددًا حقيقيًا لأية بادرة وحدوية، عندما استغلها المستعمر أسوأ استغلال، عن طريق تغذية النعرات الإثنية بين الأقليات، متبعًا سياسة فرق تسد، فاتحًا بذلك أبواب الصراع العرقي، التي قطعت أوصال القارة ومزقتها إلى أشلاء على مصاريعها، إلا أننا سنحاول أن نتلمس الأمل، فبعد الاطلاع على كتاب يوسف روكز «إفريقيا السوداء سياسة وحضارة» الصادر عام 1986، وكتاب حمدي عبد الرحمن حسن «التعددية وأزمة بناء الدولة»، ومراجع أخرى، يمكننا أن نرى تفاؤل بحل القضية. لعل واحدًا من مفاتيح الحلول المتيسرة والممكنة لقضية الوحدة السياسية الإفريقية، يتمثل في دراسة تاريخ القارة خلال فترة الاستعمار، إذ أنّ فهم الصراع والحرب في إفريقية لا يتم إلا من خلال هذه الدراسة، خاصة قضية الحدود الاستعمارية، حيث تنبع أهميتها وما نتج عنها من كونها العنصر الهام الذي كوّن وشكّل الدول الإفريقية الحديثة دولة ومجتمعاً، لعلنا إذن نحتاج إلى قراءة القضية بشكل معرفي أكثر وعيًا. رغم المحاولات العديدة التي بذلها قادة التحرر الإفريقي من الاستعمار، صناع الاستقلال، ومن تلاهم، من أجل الوصول إلى شكل متكامل من أشكال الوحدة السياسية، على غرار الاتحاد الأوروبي أو الولاياتالمتحدةالأمريكية، ورغم وصولهم إلى صيغ وحدوية تمثلت في مؤتمرات الجامعة الإفريقية، ومنظمة الوحدة الإفريقية، والاتحاد الإفريقي، وعدم اكتمال التحول إلى الولاياتالمتحدة الإفريقية، إلا أن تلك المحاولات تظهر الرغبة الجادة لدى الأفارقة، بمستوياتهم الرسمية والشعبية، في الوصول إلى الوحدة السياسية، تلك القضية التي شغلت الرأي العام الإفريقي، منذ الاستقلال وحتى الآن.