فى معرض مغامراته غير المحسوبة، فى داخل تركيا وخارجها، ارتكب أردوغان العديد من الأخطاء التى اتسمت بالطيش، لكن يبدو أنَّ خطأه الأكبر الذى ربما يكلفه الكثير، هو الاصطدام المباشر بحركة الخدمة التى تنتسب إلى الأستاذ (فتح الله كولن) هذه الحركة التى حافظت على مكتسباتها منذ انطلقت قبل ثلاثين عامًا، وحتى الآن بذكاء شديد، وشكوك كثيرة حول مؤسساتها المنتشرة فى جميع أنحاء العالم، والتى «توجه نحو ألفى مدرسة وعشرين جامعة متميزة فى مختلف التخصصات منتشرة فى تركيا وفى 6 قارات و160 دولة عبر العالم، والكثير من المؤسسات الإعلامية الكبيرة وحتى الاقتصادية، ويُقدّم هذا النسيج من المؤسسات خدمات جليلة لتركيا عبر نشر لغتها، والتعريف بثقافتها على أساس أنّها مكوّن رئيس من مكوّنات الثقافة والحضارة الإسلامية». بالقطع لم يكتفِ أتباع السيد (كولن) بهذا الانتشار الواسع لقواهم الناعمة، إذ كان من الطبيعى أن يتجهوا إلى التوغل داخل الجهاز البيروقراطى للدولة التركية إذ «خلقوا ما يُعَدّ فعليًّا دولة داخل الدولة التركية، ورسخوا وجودهم بقوة فى الشرطة والقضاء والعديد من مؤسسات الدولة. وهم بالقطع ينكرون أنهم يسيطرون على الشرطة التركية، ولكن كما قال سفير الولاياتالمتحدة إلى تركيا فى عام 2009: لم نجد شخصًا واحدًا يشكك فى هذه الحقيقة. كما يبدو أن الحركة لا تبدى تسامحًا كبيرًا مع من يختلف معها، خاصة ممن كان قريبًا منها «ففى قضية شهيرة وُجِّهَت إلى أحد كبار قادة الشرطة، الذى كان مقربًا من الحركة وكتب مُؤَلَّفَا عن أنشطتها، تهمة التعاون مع جماعات اليسار المتشدد التى أمضى قسمًا كبيرًا من حياته المهنية فى ملاحقة أفرادها، وانتهت به الحال هو أيضًا إلى السجن». السيد (كولن) الذى «يُقَدّم من طرف الأحزاب البرجوازية المحافظة ك(مسلم نموذجى) يطرح خلاصة تؤالف بين القيم الإسلامية ومبدأ الفصل بين الدين والدولة الذى تقره الكمالية، ولكن هذه الصورة التى حاول (كولن) تصديرها لأجهزة الدولة التركية، كانت قد اهتزت بقوة فى 18 يونيو من العام1999»، عندما تحدث فى التلفزيون التركى، وقال كلامًا اعتبره البعض انتقادًا ضمنيًّا لمؤسسات الدولة التركية. وبعد ذلك بدأ المدعى العام للدولة تحقيقًا فى تصريحات (كولن) وساعتها تدخل رئيس الوزراء التركى آنذاك (بولنت أجاويد) ودعا الدولة إلى معالجة الأمر بهدوء، بدلًا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية التركية، كما دافع عن (كولن) وعن مؤسساته التعليمية، بعد ذلك اعتذر (كولن) علانية عن تصريحاته، إلَّا أن بعض العلمانيين ظلوا متشككين فى أهدافه، ولاحقًا وجهت له اتهامات بمحاولة تحقيق مكاسب سياسية على حساب مؤسسات الدولة بما فى ذلك الجيش. بعد تلك الأزمة حدثت أزمة لقطة الفيديو الشهيرة التى بثت على اليوتيوب وظهر فيها (كولن) وهو يقول لعدد من أنصاره أنه سيتحرك ببطء من أجل تغيير طبيعة النظام التركى من نظام علمانى إلى نظام إسلامى، كما تحدث عن نشر الثقافة التركية فى أوزبكستان، مما أثار موجة غضب فى الجيش التركى وباقى المؤسسات العلمانية فى البلاد. كما أدى إلى أزمة دبلوماسية بين تركيا وأوزبكستان دفعت (بولنت أجاويد) للتدخل مجددًا فى محاولة لحلها. لكن أوزبكستان قررت إغلاق عدد من المدارس التابعة ل(كولن). ويبدو أنَّه خلال هذا الوقت كانت المؤسسة العلمانية فى تركيا بدأت هى أيضًا تستشعر قلقًا متزايدًا من (كولن) ومؤسساته التعليمية، فأصدرت هيئة التعليم العالى فى تركيا قرارًا يقضى بعدم الاعتراف بالشهادات العلمية التى تعطيها مدارس (كولن)، لكن هذا القرار كان مؤقتًا. فى نهاية الأمر صار السيد (كولن) منفيًّا فى الولاياتالمتحدة دون أسباب معلنة من قِبَل الدولة، أما السبب الذى يعلنه هو أنه فى رحلة علاج يعلم الله وحده متى تنتهى؟! ومع ذلك فقد استطاع أتباع الرجل إنشاء أكثر من 100 مدرسة تابعة للحركة فى الولاياتالمتحدة خلال 15 عامًا الماضية. واللافت للنظر أن حركة (كولن) غالبًا ما تلقى ترحيبًا كبيرًا من الغرب. إذ تعتبر هى النموذج الذى ينبغى أن يحتذى به بسبب انفتاحها على العالم، وخطابها الفكرى، إذ يرى (كولن) أن أمريكا والغرب عمومًا قوى عالمية لابد من التعاون معها، فى الوقت ذاته لا ينظر (كولن) إلى العالم العربى وإيران بوصفهما المجال الحيوى لتركيا، بل يعتبر القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان المجال الحيوى لتركيا، فهذه البلدان تضم أقليات تركية مهمة، وهو يرى أنه إذا كان لتركيا يومًا ما أن تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال فترة حكم الدولة العثمانية، فلابد من نفوذ قوى لها وسط الأتراك فى كل مكان فى العالم (حوالى 400 مليون حسب بعض التقديرات). لكن (كولن) من البراجماتية والذكاء، بحيث لا يستخدم تعبير «القيادة التركية» فى المنطقة، كما لا يدعو إلى استقلال الأقليات التركية فى وسط آسيا، ولا تمارس جماعته أنشطة تعليمية فى البلاد التى يمكن أن تتعرض فيها الأقلية التركية لمشاكل من قِبَل النظم الحاكمة، مثل الصين وروسيا واليونان. ومن الأمور التى يجب ألَّا نغض الطرف عنها هى رؤية (كولن) حول تطبيق الشريعة الإسلامية فى تركيا إذ يرى «أن الغالبية العظمى من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، فيما الأقلية منها تتعلق بإدارة الدولة وشؤونها، وأنَّه لا داعى لتطبيق أحكام الشريعة فى الشأن العام». ووفقًا لهذا يعتقد (كولن) أن الديمقراطية هى أفضل حل، ولهذا فهو يُكِنُّ عداءً شديدًا للأنظمة الشمولية فى العالم الإسلامى. وما بين هذه الرؤية وتقليدية الخطاب الدينى فى جوانب عديدة لدى (كولن) تتضح كثيرًا من أبجديات الفكر لدى حركة الخدمة، فكما يبدو أنَّ إحدى مميزات الخطاب (الكولَنى) هو تعدد مدلولات مقولاته والصياغات المتنوعة لأفكاره بحسب المتلقى. وفى هذا المضمار فإن إضافته لا تكمن فى تأويل جديد للقرآن، بل فى ملاءمة تركيب جديد لعناصر مختلفة متفق عليها عمومًا بهدف صياغة مقولات جديدة. وتتمثل الخطوط العريضة لخطابه فى أن الإسلام لا يجب أن يكون فى مواجهة مع الحداثة، إذ أن الدولة العلمانية الحديثة تعد خصمًا قويًّا لا يحسن الصدام معه، وهو فى ذلك يرجع إلى فرضية أستاذه بديع الزمان سعيد النورسى، أن الله يحاكم الفرد عن حياته الخاصة. وعليه فإن كل حركة تجديد إسلامية مطالبة بالتركيز على إرشاد الأفراد، وينبغى القبول بالنظام الحكومى إطارًا منظمًا للسلوكيات الفردية، كيما يتفرغ الإنسان إلى مهمات أكثر أهمية». كما يضيف (كولن): أن الإنسان يعيش حاليًا فى عصر العلوم الطبيعية والتكنولوجيا التى ليس هناك من بديل عنها. وبالتالى فإما أن يساهم المرء فى صياغة العصر بطريقة دينية أو أنه سيخسر كل مقدرة على التدخل البناء، كما أن المتذمرين لم يصنعوا تاريخًا أبدًا». بذلك يضع (كولن) نفسه فى موقف المناهض لطرق التدخل الثورية، وكبديل عن الانسحاب من المجتمع العلمانى يطرح مسألة الانخراط الفعال فى المجتمع (ومن ذلك المساهمة فى إعادة تنظيمه فى الآن نفسه). وفى إطار مرونة الأفكار التى يتميز بها السيد (كولن) استطاع الرجل أن يستبدل قناعاته حول القومية والإسلام «إذ ينظر كولَن وأتباعه إلى عالم الدول القومية كأمر واقع مثله مثل العولمة. وهم لا يعتقدون اليوم بأنه بالإمكان الحفاظ على الهوية الإسلامية الخاصة عن طريق الانغلاق عن العالم. كما يعتبر( كولَن) أن رؤيته الخاصة قادرة على فرض نفسها، ويدافع تبعًا لذلك عن مبدأ الحدود المفتوحة كى تتم إعادة الاعتبار إلى الإسلام. وعلى المرء فى رأيه أن يتعامل مع العولمة كإمكانية يجب توظيفها، لأنه لا يمكن التصدى لها ومقاومتها». نهاية.. هل من الممكن أن تكون حركة الخدمة هى النموذج الذى تستطيع التيارات الدينية فى الوطن العربى أن تحتذيه، حتى تعود مجددا إلى ساحة القبول الشعبى بعد أن لُفِظَت بسبب ممارساتها المتسمة بالعنف؟ لكن يبدو أن على حركة الخدمة أن تبرهن أولًا على قوتها وتماسكها وقدرتها على امتصاص الصدمات، إن هى استطاعت أن تنجو من مكائد نظام أردوجان الذى أصبح يراها عبئًا يجب التخفف منه، بل خصمًا يجب القضاء عليه بعد أن ساهمت الحركة بشكل كبير فى وصوله إلى السلطة.