إن الناظر إلى مظهر العالم وتجليات القدرة والنظم سيجد أن الطبيعة لا تستقر على حال واحد، بل سيجدها دائماً فى تطور وتكامل، فلا الجبال تبقى على حالها ولا البحار ولا الأرض، بل كل فى فلك يسبحون، ينثر الإنسان البذرة فى الأرض فتنشق وتصبح نبتة، ثم تتطور أكثر فأكثر حتى تصبح شجرة لها ثمر، وهذا الثمر حتى له القابلية على أن تكون له استقلالية وقدرة على التطور ليصبح شيئاً آخر، فقد يأكله إنسان فيساهم فى نموه وقوته، وقد يزرع فى الأرض لتبدأ رحلته الخاصة إلى خلق آخر، تلك سنن الحياة أو دورتها، وهى ظاهرة طبيعية متكررة لها قوانينها وقواعدها، فكل ما هو مركب من مادة يمر بمراحل وأطوار من النقصان إلى الكمال بعد استكمال العلل والأسباب ينتقل من حالة إلى أخرى أسمى وأكبر وأرقى، فلا نجد مثلاً شجرة تصغر وتتقلص حتى تكون بذرة بل يحدث العكس، ولا تجد التراب يتجمع ليكون جبلاً بل الجبال تتفتت وتصبح تراباً، وإذا نظرنا نفس النظرة فى الإنسان لن نجد شخصاً بدأ وجوده فى الستين وتأخر به العمر حتى وصل إلى مرحلة الرضاعة بل يحدث العكس يكون طفلاً ويستمر فى النمو بشكل عادل ومتناغم بلا أى خلل، فمثلاً لا ينمو الأنف فقط دون الأذن والذقن بل كل ينمو بنحو متكامل ومتناسق كأى شئ فى منظومة العدل الإلهى، إذن التطور هو قانون الطبيعة الأول، أى أن من سنة الأشياء التطور وليس الانتكاس أو الثبات بل التسامى والعلو، وأن الركون أو الانتكاس ليس من الطبيعى بل هو ضد الطبيعى أيضاً، كما قلنا إن الإنسان ليس بمختلف عن باقي الموجودات فى العالم وما يجري على مسكونات العالم يجري عليه، فقط الإنسان يمتاز بالنفس العاقلة التى تعينه على التدبير والتفكير، وعقل الإنسان ينتج الفكر، وهذا العقل وهذا الفكر يجرى عليهما نفس قانون التطور، فالإنسان يكتسب المعارف من شتى المصادر فى كل لحظة ويستزيد مع كل حركة، بل يستثمر الكثير من العلم فى حركاته اليومية بدون حتى أن يلحظ هذا ويحلله، والمسار الطبيعى للإنسان أن يعلم ويتحرك، وكلما زادت علومه ومعارفه كانت حركته أضبط وأحكم وهذا هو التطور الحقيقى للإنسان، وهذا هو الذى يثاب عليه ويعاقب، وهذا هو الذى يميزه بحق عن كل الموجودات، فكل الموجودات تتكامل وتتطور ولكن تطور الإنسان يعين كل الموجودات على أن تستمر فى تطورها هذا، فلو حدث العكس وانتكس تطور الإنسان فسد العالم فتنقرض الأنواع وتنتهي الموارد الطبيعية ويصبح كل شئ رأساً على عقب، حتى الظواهر الاجتماعية إذا ما قدمت للإنسان ما يعينه على التطور والترقي استمرت، وإذا حدث العكس وخالفت تلك الظاهرة فطرة الإنسان وساعدت على انتكاسه اختفت، فمثلاً الإنسان من فطرته أن يكون مقبول الشكل ونظيفا، وعندما تأتى ظاهرة اجتماعية كالدين مثلاً تحث الإنسان على النظافة وجمال الداخل والخارج استحسنها الإنسان وقبل بها، الإنسان الذى يلحق بركب التطور هو إنسان كامل، إنسان طبيعى، إنما غير الطبيعى هو ذلك الشاب صاحب الجسد النامي والعقل الناقص، نراه له جسد شاب فى العشرين وعقل طفل فى العاشرة، هذا ظلم وليس بعدل، فالعدل أن يكون جسد هذا الشاب وعقله متناسقين فى تناغم واحد، ومن غير الطبيعى هذا المجتمع الذى به من القوى البشرية الهائلة ما يمكن أن نهد به العالم ونبنيه على النظام الأصلح لكن نجد الحكومات تهدر تلك القوى ولا تستثمرها، فالمجتمع عندما ينمو ويكبر فهو يتطور ولابد أن تتطور معه نخبه المفكرة وقوته الرادعة وقوانينه وعلومه، والمجتمع الذى ينتكس تجد ساحة العوام والجهل تتزايد فيه كل يوم وتوشك على أن تكون تلك الساحة هى الساحة الوحيدة فى هذا المجتمع، إن من المشاهد المألوفة أن تجد شجرة تثقب الحائط وتتخذ طريقها كأنها تعلم حقها فى الوجود وتحارب من أجله، حتى النبتة الصغيرة تخرج من الأسفلت وتنشد الشمس لتنمو وتسلك سبل الكمال، وكذلك يجب أن يكون الإنسان، عليه أن يقاوم من يعيقه عن التطور ويزيل موانع التكامل من طريقه، فالإنسان إما أن يسلك مسلكه الطبيعى ويتطور أو ينتكس ويصبح عائقاً أمام تطور العالم، الإنسان الذى لا يطور نفسه معرفياً ويحسن موارده المعنوية والمادية للأفضل هو ليس بحى بل ميت.