اليوم تحط طائرة الرئاسة المصرية في الرياض، الرئيس عبد الفتاح السيسي يقوم بزيارة إلى هناك مُهِد لها منذ أسبوع بعد توتر في العلاقات بين البلدين الحليفين، على خلفية تباين في وجهات نظر كل من السلطتين في القاهرة وفي الرياض، فالأخيرة مهدت لمراجعة علاقتها بالمحور الإخواني (تركيا-قطر) بعد تغير منظومة الحكم فيها بوفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز وصعود الجناح السديري إلى سدة الحكم، مراجعة بدأت حتى قبل وفاة الملك السابق، مفادها التنسيق مع أنقرة والدوحة لخلق اصطفاف سُني-شيعي في صراع سياسي بين محاور المنطقة، الثنائية الطائفية التي تروج لها واشنطنوالرياض منذ منتصف العام الماضي، تأتي بعد انفلات ظاهرة داعش وتحولها من أداة تنفيذ إلى مشروع قائم بذاته يهدد -بدرجات متفاوتة طبعا- جميع دول المنطقة، وذلك في الوقت الذي نجحت إيران وحلفاؤها في مواجهته في ظل ارتباك ساد الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية، بعد إخفاقات متتالية في سورياوالعراق وأخيراً اليمن. في نفس توقيت زيارة السيسي إلى السعودية اليوم، يتواجد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان في الرياض ويلتقي الملك سلمان بن عبد العزيز، وهو ما حمل بعض المراقبين والمحللين لطرح مفاده أن تكون زيارة كل من السيسي وأردوغان إلى السعودية تمهيد لمصالحة بين القاهرةوأنقرة؛ خاصة وأن زيارة اليوم للرئيسين المصري والتركي إلى الرياض سبقها لقاءات عقدها ملك الأردن، عبدالله بن الحسين مع كل منهما خلال الأسبوع الماضي، وسبقها لقاء مع الملك السعودي. وبموازاة هذا الحراك الإقليمي، فأن الإدارة الأميركية تسعى إلى التعجيل بمصالحة بين الحكومة المصرية وجماعة الإخوان ومطالبة الرئيس الاميركي، باراك أوباما، عشية لقاءه مع أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، بوساطة سعودية لتنفيذ ذلك، الغرض منها تأليف توجه عربي موحد يخدم إستراتيجية الولاياتالمتحدة والسعودية في سورياوالعراق المعنونة بالحرب على داعش. قبل ساعات من الزيارة المزدوجة اليوم، أقدمت القاهرة على غلق أي باب للتفاوض بشأن مصالحة عاجلة مع الإخوان وبالتالي تركيا، فصدرت أحكام قضائية بالإعدام والسجن المؤبد على قيادات الجماعة. فيما وصف أردوغان بسؤاله عن احتمالية لقاءه بالسيسي في السعودية بأنها "مزحة سيئة". وهو ما يعني استحالة لقاء يجمعهم في السعودية، وأيضاً تنحية المصالحة مع الإخوان من مناقشات السيسي وسلمان، حيث أكد السيسي في حواره أمس مع قناة العربية أن "الشعب المصري لا يريد الإخوان لأن الإخوان يريدون تحويل مصر إلى سوريا أخرى". بنظرة سريعة إلى الخلف نجد أنه من أجل توافق السعودية مع تركياوقطر، ضغطت الرياض على القاهرة لكي يتنازل النظام المصري عن أهم ثوابت شرعيته، وهو إزاحة الإخوان المسلمون وكافة أشكال الإسلام السياسي من المشهد السياسي في مصر، وهو الجوهر الذي على اساسه بُنيت شرعية الثلاثين من يونيو وما تلاها من اجراءات واستحقاقات دستورية وديمقراطية، بما فيها انتخاب السيسي رئيساً للجمهورية. وبالتالي فأن مصالحة بشروط إخوانية-تركية-قطرية تعني تخلي النظام الحالي عن أهم ثوابت شرعيته. بالإضافة إلى ذلك فأن المساعي السعودية في هذا السياق حال نجاحها يعني تحول مصر من حليف للسعودية بالحد الأدنى إلى شريك –لن نقول تابع- حيث دأبت السعودية مؤخراً إلى التذمر من خطوات القاهرة السياسية في الشهور الأخيرة، بداية من سعيها إلى الضلوع بدور فاعل في الأزمة السورية حسب رؤية طالما أكد عليها السيسي لا تشمل حل عسكري على عكس هوى السعودية وقطروتركيا، إلى مواجهة خطر تنظيم داعش في ليبيا والرد على ذبح المواطنين المصريين هناك، إلى هجوم خليجي على القاهرة بسبب موقفها الراغب في عدم التورط في اليمن -حتى كتابة هذه السطور- باستخدامها كفزاعة عسكرية للحوثيين، وعدم حذوها حذو بلدان مجلس التعاون بسحب سفرائها أو نقلهم إلى مدينة عدن، التي هرب إليها الرئيس اليمني المستقيل، عبد ربه منصور، معلناً تمسكه بشرعيته وهو ما ينبئ بحرب أهليه وشيكة تغذي الدول الخليجية أحد أطرافها. على الأجندة المصرية اليوم أولويات أهمها إنفاذ المؤتمر الاقتصادي المتعثر منذ مرض الملك عبدالله بن عبدالعزيز اواخر العام المنصرم؛ المؤتمر يمثل آلية استمرار الدعم المالي السعودي والكويتي والإماراتي، حيث تشكل الثلاث بلدان ثقل استثماري مستقبلي يضمن جذب مزيد من الاستثمارات العربية والأجنبية إلى مصر. ثاني هذه الأولويات هو بحث مواجهة الإرهاب على مستوى عربي، وإيجاد آلية عملية لذلك تكرر ذكرها طيلة الشهور الماضية بتحالف عربي مشترك، سواء من جانب الدول الخليجية أو من جانب مصر، وأزداد التأكيد عليها من جانب القاهرة بعد التطورات الليبية الأخيرة. القوة العربية المشتركة فكرة ليست وليدة هذه الأيام، فهي متواجدة منذ سبعينيات القرن الماضي، بخلاف أن هناك معاهدات دفاع مشترك بين الدول العربية بشكل ثنائي، أو حتى في شكل تكتل جغرافي يضم عدة دول عربية مثل قوات درع الجزيرة. الجديد هذه الأيام هو أن كل لاعب على الساحة السياسية في المنطقة يريد هذه القوة العربية المشتركةّ أن تعمل وفق أولوياته ورؤيته وتصنيفاته المعدة سلفاً كذلك ساحة عمليات هذه القوة أن تبدأ في الأماكن ذات الأولوية القصوى والتي تختلف من لاعب لأخر؛ فعلى سبيل المثال تريد السعودية مثل هذه الآلية لتأمين حدودها الاستراتيجية المهددة جنوباً وشرقاً، وتريدها أن تكون سنداً في صراعها مع إيران، وأن يكون لها دور في العراقوسوريا. في حين أن أولوية مصر لمواجهة الإرهاب خارج حدودها تكمن في ليبيا، وهو ما يجعل حصر الإرهاب في تنظيم داعش غير مجدي حيث تزخر ليبيا بعشرات الميليشيات المسلحة المتطرفة بخلاف داعش، معظمها يحظى بدعم قطري وتركي، حلفاء المملكة الجدد التي استنكفت من أجلهم رد مصر العسكري في ليبيا على جريمة ذبح مواطنيها. والنقطة السابقة تطرح تساؤلات حول مواقف ورؤية الدول التي من المفترض أنها ستكون القوة العربية المشتركة حيال التنظيمات الإرهابية، ففي حين تعتبر مصر والإمارات جماعة الإخوان تنظيم إرهابي، فأن قطر ومؤخراً السعودية لا يعتبرونها كذلك، وهو ما يجعل أي عمل عسكري مصري قادم في ليبيا تحت مسمى ومظلة "القوة العربية المشتركة" في ليبيا غير ممكن نظرياً. وبالإضافة إلى ذلك فأن هناك تحالف دولي ضد داعش، بقيادة أميركية وشراكة عربية من دول الخليج والأردن، أهداف هذا التحالف نظريا هو محاربة تنظيم داعش واستبدال مسلحيه في سوريا بقوات "معارضة معتدلة" تهدف لمحاربة النظام السوري وهذا الأمر يشكل أولوية قصوى لدى الرياض والدوحة وأنقرة تغلب حتى أولوية مواجهة داعش وضمان تحييد مسلحي النُصرة وغيرهم من التنظيمات الإرهابية هناك- عملياً لم تسفر الشهور الماضية سوى عن ضربات جوية جراحية الهدف منها تحجيم أو بالأحرى تحديد اتجاه تمدد التنظيم لا القضاء عليه- وهو ما يتعارض مع توجه القاهرة الرامي إلي حل سياسي سلمي يضمن وحدة سوريا الجغرافية وحصر السلاح هناك في الجيش السوري. القاهرة من جانبها، وحسب ما نشرته صحيفة الحياة اللندنية أمس، ترى أن القوة العربية المشتركة ستعمل وفق الدفاع العربي المشترك وتحت مظلة الجامعة العربية التي سيناقش أمينها العام الاقتراح المصري في قمتها التي ستنعقد في الكويت الأسبوع القادم، وأنه لو لم يحظى المصرية بإجماع من دول الجامعة العربية فإن –وحسب تصريح مصدر عسكري للصحيفة- ستتشكل تلك القوة بمن حضر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاقتراح المصري الذي سيعرضه السيسي على الملك سلمان اليوم يتضمن أن تكون ليبيا أولوية عمل لهذه القوة المشتركة التي سيكون عمودها الفقري من الجيش المصري، حيث أشارت الصحيفة أن الاقتراح المصري جرى تدشينه فعلياً بعد مشاورات مع الحكومة الليبية. الصيغة السابقة لا تضمن للسعودية تحقيق أي من غاياتها الحقيقية المرتبطة باصطفاف سُني موجهة ضد محور المقاومة، يصبح فيها الإرهاب محصوراً في تنظيم داعش، وتحل مسألة محاربته موقع متأخر على الأجندة السعودية، التي تطمح أولاً إلى حشد المثلث "السُني" المكون من الرياضوأنقرةوالقاهرة ضد المثلث "الشيعي" المكون من طهران ودمشق وحزب الله. فيبدو أن القاهرة لجئت إلى حل وسط باقتراحها "قوة عربية مشتركة" بالشكل السابق، يضمن تحقيق جزء كبير من مصالحها في ليبيا وفي نفس الوقت يضمن عدم اتساع التباين بينها وبين الرياض قبل المؤتمر الاقتصادي، ومن ناحية أخرى يضمن أن تحتفظ مصر بمكانتها الاقليمية كدولة وازنة لا ورقة ضغط تستخدمها السعودية كيفما يتفق مع مصالحها، أي بعبارة أخرى موجزة؛ أن القاهرة ردت الكُرة مرة أخرى إلى ملعب السعودية. موضوعات متعلقة: