لم تكن موجة الصقيع والعاصفة الترابية التي ضربت مصر في الأيام الحالية مجرد موجه من الطقس المناخي المتقلب الذي يحل بكل بلدان العالم دون أن يلحق ضررًا بالأشخاص، بل في مصر يختلف كل شئ، فالمستضعون في الشتاء لا مأوى لهم، هؤلاء الذين يحتمون من العواصف الترابية تحت الأشجار التي ربما تسقط عليهم، وإذا اشتد عليهم البرد، يشعلون بعض الأخشاب؛ ليقهروا موجة الصقيع والعواصف الترابية دون وجود سقف ينامون تحته، فأكل عيشهم وملجؤهم في الشوارع على الأرصفة. فماذا يفعل هؤلاء الذين يفترشون الأرض في النهار لبيع بعض المنتجات البسيطة ويأتي عليهم الليل ليناموا على أرصفة الشوارع وسط تلك العاصفة الترابية؟ فهم خاسرون لكل شيء إلا عفتهم، بعد أن وضعتهم الدولة في حيز النسيان. العاصفة الترابية تعصف بفقراء مصر في الشوارع في بادئ الأمر ووسط اشتداد العاصفة الترابية أمس الأربعاء التقت "البديل" في ميدان عبد المنعم رياض السيدة "مني عبد السميع " التى تفترش الأرض لبيع الجبن والفطير، وسط تلك الأجواء، تقول منى وهي تضع شالاً مُرقعًا على كتيفها إنها تركت منزلها، وجاءت هي وأولادها من الفيوم لبيع الجبن والفطير في الشارع، وفي آخر النهار ينامون في كشك متواجد في الميدان نفسه، موضحة أنها في نهاية الأسبوع تعود إلى الفيوم لإطعام زوجها والمجيء إليه بالطعام؛ لأنه مصاب بشلل نصفي. وتابعت "عبد السميع" أن العاصفة الترابية تلك جعلت المنتجات التي تبيعها تفسد بسبب كثرة التراب، موضحة أنها منذ يومين لم تستطع أن تحصل على جنيه واحد، لافتة إلى أن الموظفين الذين كانوا يشترون الجبن لم يشتروه وسط تلك الأتربة التي تأتي عليه، وأنها تفرش عليه قطعة من المشمع الكبيرة، لكن تيار الهواء ينزعها. وأوضحت أن كل ما تطلبه من الدولة هو توفير تأمين صحي لزوجها بدلا مما هو فيه، لافتة إلى أن الحياة بهذا الشكل تعد إهانة لأولادها ولزوجها. ولم تكن منى وحدها التى أضرت بها العاصفة الترابية، ففي الميدان نفسه جلس عم سيد وهو يضع يديه على رأسه، بعد أن أغلق "فرشته" التي يبيع عليها الجرائد اليومية، قائلاً "الهوا بيطير البشر، فما بالك الجرايد؟ أنا من الصبح حاولت أفرش عشان أبيع زي كل يوم، بس الهوا بيجي ويطيَّر الجرايد في الشارع لحد ما تبعت وقفلت". وأضاف عم سيد أنه لا يمتلك سوى تلك المساحة الصغيرة التي يبيع بها الجرائد كأكل عيش له، موضحًا أنه طلق زوجته منذ ما يقرب العامين، ولم يفعل شيئًا سوى الجلوس بجانب فرشة الجرايد، وفي نهاية اليوم يرتمي بجانبها حتى يأتي الصبح، ويبدأ رحلة البحث عن أكل العيش من جديد، حتى يستطيع أن يدفع النفقات التي طالبته بها المحكمة لزوجته. وتابع أنه قدم طلبًا منذ عام 2008 للحكومة ولمحافظة القاهرة؛ ليحصل على ترخيص لعمل كشك، "لكن الحكومة تضع الفقراء من أمثالنا خارج المعادلات طالما بعيدون عن السياسة". ولم يكن هما وحدهما تحت العاصفة الترابية، فعلى بعد أمتار نجد محمد أحمد صاحب العشرين عامًا يشرب كوبًا من الشاي الساخن، بعد أن توقف عمله يومين، فهو يبيع العيش فوق الأقفاص، وأحيانًا يدور به بدراجته على المنازل، ولكن العاصفة الترابية جعلته يتوقف عن العمل، بعد أن أحضر خبزًا أمس، ودفع ما يقارب ال 200 جنيه، ثم خسرهم بسبب الأحوال الجوية. الأهداف السياسية ليست وحدها من تصنع التقدم ..فالفقراء أولاً وعما يعانيه الفقراء في وسط ذلك الصقيع دون وجود مأوى لهم، يقول دكتور حسين السويدي، الخبير السياسي، إن ما يعاني منه الجائلون في الشوارع والذين لا مأوى لهم وسط ذلك الصقيع أمور لا تحدث سوى في مصر، مشيرًا إلى أن هؤلاء لابد أن توفر لهم الحكومة مأوى للعيش، بدلا مما يلاقونه في الشوارع. وأكد "السويدي أن الانشغال بتحقيق خارطة الطريق والأهداف السياسية التى نسعى لها جميعًا لن تتحقق دون أن ننهض بالفقير، خاصة أن الفقراء هم دائمًا مقياس تقدم الدولة وتحضرها وفقًا لما تفعله الدولة معهم، مطالبًا المحافظات بأن تضع حلولاً ولو شبه مؤقتة لهؤلاء؛ حتى لا نستيقيظ يومًا على وفاة فقير من الصقيع أو الجوع مثلما يحدث في الدول المتخلفة كالصومال.