أحيانًا تتجمد أحاسيسنا ومشاعرنا، تتبلد وتتحجر، تتخفى تحت ركام الهموم والمخاوف والإحباطات، فلا يعود أي شيء قادرًا على أن يفاجئنا أو يهزنا أو يثيرنا، يوقف الدوامة التي نغرق فيها طوال اليوم، ولولا ذلك لتوقفنا وانزعجنا وارتبكنا، حين خرجت أكثر من دراسة اجتماعية وإحصائية تفيد وتعترف بوجود 11 مليون فتاة مصرية تخطت كل واحدة منهن سن الثلاثين عامًا دون أن تتزوج، حتى القليلون الذين استوقفهم هذا الرقم، لم يفزعهم الرقم في حد ذاته بكل معانيه ودلالاته، وإنما رأوا أنه رقم يصلح لاستخدامه في أغراض أخرى، المعارضة والتيارات السياسية برؤيتها وصحافتها رأت أن الرقم يعنى أزمة زواج في مصر، وهذه الأزمة لم تحدث إلا لأن البطالة تزايدت أرقامها، والمساكن قست على الشباب في أسعارها، وبالتالي أصبح هذا الرقم في قاموس المعارضين لا يعنى إلا فشل الحكومة في ستر بناتها. أما الحكومة فجزء كبير منها قطعًا علم بهذا الرقم، فبادر بإعلان عدم تصديقه – رغم أنه رقم صادر من هيئات وأجهزة حكومية رسمية – وجزء آخر التزم الصمت، رافعًا شعار "وإيه يعنى؟"، ولكن لأنه يعنى جدًّا، يعنينا نحن كلنا؛ فقد كان لابد وأن نتوقف، لا مع المعارضة ولا مع الحكومة، ولكن مع 11 مليون فتاة في مصر كل منهن حالة شديدة الخصوصية، كل منهن مشروع عذاب وحرمان ويأس نراه ونشهد استكمال تفاصيله يومًا بعد يوم. تفاقم المشكلة وسط ضجيج الاستعداد للانتخابات البرلمانية و الصراعات السياسية والمشاكل الأمنية والاقتصادية، فجر أحدث تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر تفاقم مشكلة العنوسة، إذ بلغ عدد العوانس 11 مليونًا؛ ما أثار قلقًا واسعًا بشأن آثارها الاجتماعية بشكل خاص. وأكد التقرير أن العنوسة تنتشر في مصر بدرجة كبيرة، وأكدت الإحصاءات الرسمية أن 13 مليون شاب وفتاة تجاوزت أعمارهم 35 عامًا لم يتزوجوا، منهم 2.5 مليون شاب و11 مليون فتاة فوق سن ال 35، ومعدل العنوسة في مصر يمثل 17% من الفتيات اللاتي في عمر الزواج، ولكن هذه النسبة في تزايد مستمر، وتختلف من محافظة لأخرى، فالمحافظات الحدودية النسبة فيها 30%؛ نظرًا لعاداتها وتقاليدها، أما مجتمع الحضر فالنسبة فيه 38%، والوجه البحري 27.8%، كما أن نسبة العنوسة في الوجه القبلي هي الأقل، حيث تصل إلى 25%، ولكن المعدل يتزايد ويرتفع في الحضر. ويتضح أن ظاهرة العنوسة في مصر أدت لزيادة بعض الظواهر غير المقبولة اجتماعيًّا ودينيًّا، مثل ظاهرة الزواج السري والعرفي بين الشباب في الجامعات، والشذوذ الجنسي بين الفتيات، والإصابة بأمراض نفسية. وبالنسبة للرجال فقد دفعت البعض للإقبال على إدمان المخدرات. وأكد التقرير أن هذه الأرقام ترجمة فعلية لظاهرة خطيرة بدأ المجتمع المصري يعاني منها، لا سيما في السنوات الأخيرة. قطار العمر وقال الدكتور عبد المنعم عبد الحي أستاذ علم الاجتماع المتفرغ بآداب طنطا إن مشكلة العنوسة لها خلفيات عديدة، قد تكون أهمها التغييرات التي طرأت على مجتمعاتنا واحتلال النظرة المادية لتفكيرنا، حتى أصبحت تحكم أسس الزواج. وأضاف أنه لم تعد الفتاة تحلم بالفارس الذي يحملها على الحصان الأبيض، ولم تعد تهتم بقوة الرجل أو الشكل، بل الأقوى هو القادر على توفير حياة مرفهة. وعن حل هذه المشكلة قال "تفاديًا لهذه الكارثة الاجتماعية الحقيقية، لابد أن يساهم المجتمع بأكمله لحل هذه المشكلة والتوعية بأهداف الزواج الحقيقية، بعيداً عن الأحلام والماديات، إلى جانب تنبيه الفتاة بعدم تركيزها على مستقبلها العلمي أو الوظيفي فقط، بل هناك جانب آخر في حياتها لا بد من التفكير فيه؛ حتى لا تندم الفتاة على مرور قطار العمر". وأوضحت الدكتورة مايسة إبراهيم شكري أستاذ علم النفس بكلية آداب جامعة طنطا أن الفتاة العانس عادة ما تشعر بالوحدة بالرغم من كثرة الناس حولها، حيث تعاني من الغربة والإحساس بالدونية، ويلعب الفراغ النفسي والحرمان العاطفي من دفء الأسرة والأمومة دوراً كبيراً في أن تكون الفتاة عرضة للقلق والاكتئاب، وربما يصل إلى الاضطرابات الجسدية بسبب الكبت النفسي والانفعالات. فيما قال الشيخ حمزة أبو صيرة إمام وخطيب بأوقاف الغربية إن ظاهرة العنوسة تعود إلى الآباء؛ لوضعهم شروطًا تعجيزية للشباب، تجعلهم غير قادرين على تحمل تكاليف الزواج، علاوة على غلاء المعيشة وصعوبة توفير سكن. وأضاف أنه "لعلاج تلك الظاهرة ينبغى على أهل الفتاة البحث عن رجل مناسب يستطيع أن يسعد ابنتهم، وعدم النظر إلى غلاء المهر، وإنما البحث عن رجل مسلم رشيد وأخلاق طيبة يحفظ بهما دينها ويصونها ويسعدها، ولا بد من تيسير سبل الزواج وترسيخ المعايير الشرعية لاختيار الزوجين ومجانبة الأعراف والعادات والتقاليد الدخيلة التي لا تتناسب مع قيم ديننا الحنيف". المأساة هذا هو بعض ما يعنيه هذا الرقم الذي لم يهتز له أحد، وهؤلاء هن الفتيات الضحايا اللاتي يمكن أن تتجاهل الأحزاب والتيارات السياسية مشاعرهن وأحاسيسهن ومخاوفهن؛ لتناور مع الحكومة على قضايا وملفات أخرى، وهؤلاء هن اللاتي يمكن أن تتجاهلهن الحكومة – هي والمعارضة – تحت شعار ونداء أن هناك في وطننا ما هو أهم وأجدى بالبحث والالتفات والاهتمام، وليس ذلك صحيحًا بالطبع فأن تصبح بيننا وفى بلادنا 11 مليون مشكلة و11 مليون قنبلة منزوعة الفتيل أمر كنا ولا نزال وسنبقى نراه مشكلة أهم وأخطر من عشرات المشكلات التي نكتب عنها ونقرؤها كل يوم، ولسنا وحدنا المقتنعين والمؤمنين بذلك، معنا على الاقل 11 مليون فتاة كلهن يعرفن خطورة وقسوة هذه المشكلة وهذه المأساة.