لا يُجبر الإسلام غير المسلمين على الدخول فيه, فإذا دخلوه لم يكن لهم التحول عنه, حتى لا يصير الدين لعبة! فإذا حدث وارتدوا استتيبوا ثلاثة أيام, فإن لم يعودوا إلى حظيرة الإيمان أقيم عليهم حد الردة وقُتلوا! تصور موجود عند أكثر المسلمين ومنطق مقبول عندهم! وبغض النظر عن أن هذا التصور ينحصر فيمن دخلوا الإسلام بعد تدين بدين سابق, ويتناسى الأكثرية العظمى من المسلمين, الذين يولدون لآباء مسلمين, فيرثون الدين وراثة! فما الحال إذا كبر بعضهم فلم يقتنع بالإسلام وأراد تركه, فهل يعاقب على ما لم يختر ابتداءً؟! أم يكون العقاب لمن دخلوه من دين آخر فقط, أم أنه ليس هناك عقاب أصلاً! الناظر في القرآن يجد الكثير من الآيات التي تتحدث عن الحرية الدينية عامة بدون أي تخصيص لمن دخل في الإسلام أو لم يدخل! وعمدة الأدلة هي قول الرب العدل: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ .. [البقرة : 256]" فمن اقتنع آمن ومن لم يقتنع فليترك والميزان في هذا ضمير الإنسان, وكذلك قول الرب الحكيم: "… وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة : 217]", فمن يرتدد ويظل على ردته حتى يموت كافرا فقد حبط عمله. فلو كان ثمة عقوبة للردة لقال الله "ومن يرتدد منكم عن دينه فاقتلوه, أو "فيُقتل وهو كافر فأولئك ….", فأين حد الردة إذا؟! لا وجود لهذا الحد المزعوم, فعندما تحدث الله عن انقلاب المؤمنين على أعقابهم في حالة وفاة الرسول: "و َمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَشَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران : 144]", لم يزد عن أن قال أنه لن يضر الله شيئا. وحتى لا يبقى للقارئ شك نقدم له الآية الحاسمة في هذا الباب: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [النساء : 137]", فالآية تذكر أن هناك أناسا آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا, و لو كان هناك ثمة عقوبة للمرتد لما حدث هذا ولأقيم عليهم الحد! ولكن لما كان هناك حرية دينية في الإسلام فقد دخل بعض ضعاف النفوس في الدين ثم خرجوا ثم عادوا فدخلوا ثم خرجوا فتوعدهم الله بالعذاب في الآخرة , ولم يذكر لهم أي عقاب دنيوي! ولقد حاول بعض أهل الكتاب تشكيك المسلمين وردهم عن الدين استناداً إلى هذه الحرية: "وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران : 72]", يتأكد من هذا أنه لا عقوبة دنيوية حدية على من دخل في الدين ثم خرج فقط, وهي تكون عند الله تعالى في الآخرة: "وقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا .. [الكهف: 29]" وبخصوص الاستتابة نقول: إن دور النبي والداعية هو التذكير فمن أعرض فليس له أن يحمل الناس على الإيمان فهو ليس عليهم بمصيطر ولا عليهم بحفيظ, وليس له أن يكرههم عليه: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [يونس : 99]" والاستتابة إكراه على الدين! إن سيدنا نوح استنكر إلزام قومه برحمة عميت عليهم! فكيف يُستتاب الإنسان تحت تهديد القتل: "قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ [هود : 28]", ولست أدري ما فائدة بقاء هؤلاء الذين لم يعودوا مؤمنين بالإسلام ظاهريا على الإسلام؟! لقد وضح القرآن أن من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فلا حرج عليه, أفنفعل نحن نفس الفعل ونكره الناس وقلوبهم طافحة بالكفر؟! وبالإضافة لهذه الأدلة القرآنية الصحيحة في عدمية حد الردة, هناك أدلة من السنة تؤكد هذا, فنجد الإمام النيسابوري يذكر في أسباب نزول قوله "لا إكراه في الدين": نزلت في رجل من الانصار يكنى أبا الحصين، وكان له ابنان، فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا وخرجا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اطلبهما، فأنزل الله عز وجل – لاإكراه في الدين – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبعدهما الله هما أول من كفر" اه ولقد ذكر الأستاذ جمال البنا نماذج لحالات الردة في زمان الرسول التي ذكرتها السنة في كتابه: حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام, فقال: "- ارتد في حياته بعض المسلمين أفراداً أو جماعات, وبعضهم كان ارتداده مرات لا مرة واحدة فما قتل أحداً منهم. (….) - وارتد اثنا عشر مسلما عن الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا من المدينة إلى مكة ومنهم الحارث بن سويد الأنصاري, فما أهدر الرسول دم أحد منهم, ولا حكم بقتل مرتد منهم واكتفى القرآن بقوله عنهم: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". - وارتد عبيد الله بن جحش بعد إسلامه وهجرته إلى الحبشة واعتنق النصرانية هناك, فما أهدر النبي (ص) دمه, ولا طلب من النجاشي تسليمه إليه ولا أوعز إلى أحد بقتله. " اه وتبقى بعض الروايات التي استُند إليها في تأصيل حد الردة! والتي هي بين ضعيف موضوع أو منتزع من سياقه! وهذا ما سنعرض له في مقالنا القادم بإذن الله.