قامت منذ شهر تقريبًا أول ثورة جياع في عهد الثورات العربية، وذلك في حي "الغوطة الشرقية" في ريف دمشق؛ حيث اقتحم السكان المحتاجون مستودعات الغذاء، واستولوا على محتوياتها، حتى قام مسلحو "القيادة الموحدة" بطردهم، وذلك إثر استغلال التجار المحتكرين لغلق الجيش السوري معبر مخيم الوافدين، الذي تدخل منه المواد الغذائية بشكل أساسي إلى الغوطة. وهو ما يطرح السؤال: أين تقع ثورة الجياع بالضبط من الفكر العربي المعاصر، والواقع العربي في عهد ثورات الربيع؟ توقع بعض المفكرين اندلاع ثورة الجياع في بلاد الربيع العربي بعد فشل كل من التيارين المدني والإسلامي في التخلص من الدكتاتورية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو ما قد يدفع بالحلول المثالية جانبًا إلى الهوامش، ويستبقي الحل الواقعي العملي في الصدارة؛ أي أن الجمهور لا بد وسيتملكه اليأس من فكرة الديمقراطية وفكرة الإسلام دين ودولة كليهما، ويتحرك بناء على مطالبه الواقعية قصيرة المدى، نحو مخازن الطعام، وبيوت الأغنياء، وممتلكاتهم، والمحال التجارية، وكل ما يمكن بيعه وتحصيل ثمنه، من أجل سد الحاجة، ودفع الظلم الاجتماعي-الاقتصادي، وهو ما قد يبدل البنية الاجتماعية تبديلا غير محدود. ومن المفكرين الذين توقعوا هذه الظاهرة حسن حنفي في حواره مع "الموجة الألمانية" Deutsche Welle المنشور على موقعها الإلكتروني بتاريخ 17/7/2014. تعرضنا في المقال السابق لفكرة الثورة عمومًا، واتجاهاتها في الفكر العربي المعاصر، بداية من أحمد خان، وخير الدين التونسي، والطهطاوي، والأفغاني، حتى أدونيس، وحنفي، والجابري؛ وغيرهم. وقد توصل المقال السابق إلى ضعف اتجاه الإصلاح الاجتماعي المتمثل في: رفاعة الطهطاوي، وأحمد خان، وخير الدين التونسي، وطه حسين، والعقاد؛ والذي يحول الأفكار إلى مشروعات، ويعمل عملا إصلاحيًا غير راديكالي مع أطراف متنوعة سياسيًا. وهذا يعود إلى ضعف المؤسسات المدنية في العالم العربي، وضعف العمل الحزبي، وطغيان الحل المثالي، من الفكر إلى الواقع، وليس العكس، فآمن المفكر بأن الثورة تبدأ في الوعي، أو يؤَسَّس لها في الوعي، كي تحدث في الواقع. وهكذا ظلت ثورة الجياع مهمشة في المشروعات العربية الفلسفية، ولم تهتم بها تقريبًا سوى الجماعات السياسية اليسارية، خاصة الراديكالية منها، تلك التي لم تقدم مفكرًا يقدم مشروعًا فلسفيًا واضح الملامح وعالي التنظير. ويعد أدونيس واحدًا من القلائل ممن اهتموا بهذه الثورة في التاريخ الإسلامي في (الثابت والمتحول)، حيث تعرض إلى ثورات الزنج والقرامطة، باعتبارها ثورات اندلعت لأسباب اجتماعية، وإن استعملتْ الدين بتأويل خاص لخدمة أهدافها، ولا شك في أنها حققت عددًا من هذه الأهداف، وزلزلت العالم الإسلامي كله بشكل ما. وبعد أدونيس، وليس تأثرًا به، قدم حسن حنفي رؤيته لليسار الإسلامي، تأثرًا بالثورة الإيرانية أساسًا، وما نتج عن المد الإسلامي في إيران من أسلمة اليسار، الذي كان علمانيًا، لكن حنفي أو أدونيس لم يقدما ثورة الجياع كحل أساسي وجذري لأزمات الواقع العربي من فقر وديكتاتورية وتخلف. وبرغم أن المجتمعات العربية الفقيرة (أجزاء من العراق الشام واليمن وأغلب الشمال الأفريقي) تتوفر فيها بواعث ثورة الجياع، من تفاوت كبير بين الفقراء والأغنياء، ورفع السلاح في وجه المطالبين بعدالة اجتماعية، وحماية الأنظمة للأغنياء، وزواج المال بالسلطة، فإن المجتمع العربي تتوفر فيه كذلك أركان تقليدية، تحافظ على الأسرة وبنية المجتمع الحالية، وترى الثورة من منظور أوديبي (الثورة على الحاكم كعصيان الأب)، ومنظور دستويفسكي-كارامازوفي (الثورة على الحاكم-الأب كالإلحاد)، وتدعم الحل المثالي الإسلامي (القائل: يرتفع الغلاء إذا تحجبت النساء). وبالتالي تعمل هذه التقاليد ككابح كلما ضغط الفقر على أمعاء الجياع من أجل التقدم نحو ثورتهم. وهكذا يخلو الفكر العربي المعاصر من مشروع فلسفي متكامل، محدد المعالم، ينظر لثورة الجياع، من حيث بواعثها، وكوابحها، وعوامل نجاحها وإخفاقها، وكيف يمكن أن تتغلب على التقاليد العربية، أو توظفها لصالحها.