يقوم الفكر العربي المعاصر في جانبه الأهم على أطروحة أساسية مفادها: أن الأزمات الاجتماعية ذات أصول فكرية، قد تتعلق بصراع الوافد والرافد، أو تزييف الوعي الذي تقوم به أجهزة إعلامية وتعليمية وثقافية، أو الخطاب الديني، وما إلى ذلك من الأوجه الفكرية-الثقافية للأزمة الاجتماعية. ويمكن فهم هذا الأساس بالمنهج التاريخي أيضًا؛ إذ يبدأ تاريخ الفكر العربي المعاصر، الذي يُعتقد في امتداده في الماضي لقرنين من الزمان، بالصراع بين أطروحتين: التحديث والمقاومة؛ فقد ظهرت الحاجة، خاصة بعد حملة نابليون على مصر والشام، إلى تحديث الدولة، وهو ما يستتبع تحديث الأفكار والمعتقدات، عبر نظام التعليم والتثقيف، مع تسخير هذه النظم التحديثية لصالح النظام الحاكم، الذي لم يكن ديمقراطيًا، وكان أحيانًا تابعًا للقوى الاستعمارية نفسها، بالإضافة إلى شعور بعض المفكرين ورجال الدين بخطر هذا التحديث على الهوية الإسلامية، وهو ما يمكن أن يفتت وحدة الدولة العثمانية، ويوقع أقطارها البعيدة تحت نير الاستعمار نفسه، فيتم الهروب من الاستعمار عن طريق التحديث إلى الاستعمار مرة أخرى، في منظورهم. ومن هنا وقع الصدام بين تلكم الأطروحتين، أو التراث والحداثة، وأيهما أصلح وأبقى لمواجهة التخلف والاستعمار؟ الحداثة أم الهوية؟ وهل يمكن الجمع بينهما؟ ولكن بلا شك أن كلا الطرفين: الحداثيين والإسلاميين، قد آمنا بأساس (فوقي) للأزمة الاجتماعية، أو-بالاصطلاح الفلسفي-أساس مثالي، أي: يتعلق بالأفكار والمعتقدات والعادات أكثر مما يتعلق بالمجتمع والاقتصاد والموارد. ومن هنا بدأ كل فريق، انطلاقًا من النقطة نفسها، شق طريقه الخاص، وتطوير أطروحته المتبناة. ويبدو استثناءً الاتجاهات الواقعية، الماركسية أو غيرها من الاتجاهات والحركات الشيوعية والاشتراكية، التي بدأت شق الطريق نحو التحول الاجتماعي بدءًا من القواعد الاجتماعية: العمال والفلاحين، مرورًا بتكوين نقابات وتنظيمات، وانتهاء بتكوين أحزاب. لكن حتى هذه الحركات، ونظرًا لما لاقته من تضييق السلطة في كل البلاد العربية، ونظرًا كذلك لصعوبة تلقي مفاهيمها الخاصة بالدولة والثورة والمادة في ثقافة تقليدية، ونظرًا-ثالثًا-لانفصال أطروحتها عن الدين الإسلامي وبالتالي الثقافة المحلية، شعرتْ أنها بحاجة إلى تجذير مفاهيمها عن طريق التثقيف وتغيير الوعي. وبعد هزيمة العرب في 1967 حدثت أكبر ردة مثالية شهدها الفكر العربي المعاصر، من الحركة على مستوى العمق الاجتماعي إلى محاولة تحديث الوعي، وهو ما ترافق مع سيادة قصيدة النثر في الأدب العربي، بما حملتْه من مضامين الحداثة العربية، من تفكيك الوعي السائد، وتنمية حاسة جديدة للتلقي عند المتذوق، ونبذ النبرة الخطابية،ورفض الوصف المسطَّح للواقع، إلى آخر ما شكل خصائص هذه الحداثة في شعر السبعينات، سواء ما كان منه نثرًا أو تفعيلة، وهو السياق نفسه أيضًا الذي ظهرتْ فيه المشروعات العربية المعاصرة، التي دشنها أدونيس "بالثابت والمتحول"، تلته محاولات الجابري وحنفي وتلامذتهما ورفاقهما في شتى الدول العربية. ولم يزل الفكر العربي المعاصر إلى الآن يتصدى للأزمة الاجتماعية، المتمثلة في الفساد المؤسسي، والدكتاتورية، والفقر، والتخلف، والتأخر العلمي، والرقابة، والتدخل الأجنبي، عن طريق محاولة تحديث الأفكار وتفكيك البنى الفكرية القديمة، التي لا تساير روح التقدم، من وجهات نظر مختلفات، فعبد المجيد الصغير اليوم في المغرب يرى أن الفكر الأصول في الإسلام تابع للسلطة السياسية، ويجب النظر إليه في هذا السياق، وعلي مبروك في مصر يرى أن الفكر الأشعري شكّل غطاءً للسلطة على مر تاريخ الإسلام، وأن الأوان آن للتخلص منه بكشف أسسه الأيديولوجية، وتفكيكه، وكلها حلول مثالية. لكن أزمة الفكر العربي المعاصر ليست في مثالية الحلول، بل في دوران الفكر العربي المعاصر إلى ما لا نهاية حول الحلول المثالية، أي: أن المفكر العربي المعاصر يشخص الأزمة الاجتماعية بأسباب مثالية، ويظل طيلة مشروعه وعمره يحاول تفكيك هذه الأسباب وكشفها، بمناهج مختلفات، في حين أن أية حلول لأية أزمة اجتماعية من المنطقي أن تنتهي إلى حلول اجتماعية، مرورًا فعلاً بمرحلة من المعالجة المثالية. فمشكلة التخلف العلمي مثلاً صحيح أن لها أساسًا مثاليًا يتعلق بالرقابة الدينية وفقر ثقافة البحث العلمي وضعف الاعتقاد في مبدأ السببية على المستوى الثقافي.. إلخ، لكن لها أساسًا مهمًا في ضعف ميزانية البحث العلمي، وتخلف التعليم.وهذه الأوجه الأخيرة من التخلف لا يمكن أن تُواجَه إلا بالحراك الاجتماعي. إن المفكر العربي يشخص ويحلل وينقد ويفكك العقل العربي-الإسلامي إلى ما لا نهاية، دون أن يضع حدودًا للمعالجة، تنتهي بهذا التفكيك، وتبدأ بضرورة الحراك الاجتماعي. المفكر العربي مفكر لا نهائي، يفكر بدون طرح حدوده الاجتماعية، أو حتى الإقرار بها.