قصة من وحي يوميات حرب فلسطين بيد الزعيم جمال عبد الناصر الزمان: مساء الخميس ۳ يونيو/ صباح الجمعة 4 يونيو ۱948م المكان: بلدة أسدود على ساحل المتوسط في منتصف المسافة بين غزة ويافا أخذ"حكيم" و"زكريا" يتحدثان عن المعركة التي يقبلون عليها، فلم يخرج حديثهما عما تداولته الصحف العربية وقتها، ومجمله أن الجيوش العربية تذهب لتأديب عصابات اليهود التي اجترأت على ارتكاب مجازر وجرائم ضد المواطنين الفلسطينيين، سواء قبل إنهاء بريطانيا للانتداب أو بعده، وكيف جاء هذا كحلقة أخيرة من مؤامرة بدأت بعيد الحرب العالمية الأولى بمعاهدة سايكس- بيكو! وتحدثا بأن نتيجة الحرب محسومة لصالح العرب! وهنا وضع "ناصر" كتابه جانبا واشترك في الحديث قائلا - ياريت أكون غلطان! بس أنا مش متأكد من النصر زيكم. - ليه يا "جمال"؟ عصابات الهاجاناة وشتيرن هتغلب جيوش مصر وسوريا والعراق والأردن ولبنان والسعودية مجتمعة؟ هكذا علق "زكريا" فأجابه "جمال" بقوله: - الحرب الحديثة بتعتمد على أربع ركايز أساسية؛ الجندي المدرب على أرض المعركة وطبيعتها والمستوعب لسلاحه، العقيدة القتالية الراسخة، قوة النيران وتطور السلاح، ثم القيادة المؤهلة من أول القيادة العامة لحد قيادات الكتايب والسرايا. تعالوا نقيم وضع الجيوش العربية مقابل العدو بناء على الركائز دي. وهكذا شرع اليوزباشي "جمال عبد الناصر" يتحدث عن مقاتلي الجيوش العربية وعدم إعدادهم بالصورة المطلوبة فضلا عن عدم خبرتهم بأرض المعركة، مقابل عصابات صهيونية تعمل على تلك الأرض منذ ۱۹4۲م، فضلا عن غياب العقيدة القتالية، حيث لا يعرف معظم هؤلاء الجنود لماذا يقاتلون، وأن كل ما قيل في الصحف والراديو للناس من تسطيح للقضية وتصوير الحرب بأنها مساندة لشعب شقيق هو كلام فارغ! وكان على الحكومات العربية أن تشرح للشعوب أنها تدافع عن نفسها ضد الصهيونية والاستعمار على أرض فلسطين وليست تدافع عن فلسطين وحسب. ثم تحدث عن السلاح وكيف أن مصدر سلاح الجيوش العربية هو نفس مصدر سلاح الصهاينة! وهو بريطانيا! وهي بهذا تضمن تفوق النيران اليهودية على العرب، ولم تعلن انتهاء الانتداب إلا بعد أن اطمأنت أن عصاباتهم صارت متمكنة ومتفوقة على رد الفعل العربي المتوقع. وختم قائلا بصوت هامس - أما القيادة فأظن كلنا عارفين اللواء "المواوي" كويس! وباقي الجيوش العربية مش أحسن حالا بكتير، كفاية القيادة البريطانية للجيش الأردني! الجنرال "جلوب" والكولونيل"نيومان" وغيرهم! الأهم من ده كله عدم وجود قيادة ورئاسة أركان موحدة للجيوش العربية. - حيلك يا "جمال"! ده إنت شركتنا خالص! - زي ما قلت! يا ريت أكون غلطان. وفي النهاية إحنا جنود ولازم نؤدي واجبنا ونحارب بشرف مهما كانت الظروف. سرت الحركة في أرجاء القطار عندما هدأت سرعته وهو يدخل محطة غزة، ونزل الضباط الثلاثة مع غيرهم ليجدوا سيارات تنتظر كل مجموعة منهم لتتوجه بها إلى كتيبتها، فودع "جمال" رفيقيه وركب السيارة "هامر" التي كانت تنتظره لتحمله إلى نقطة تمركز الكتيبة السادسة خارج غزة، بينما ركب "عبد الحكيم" و"زكريا" سيارة أخرى تتجه إلى أسدود في الطريق سأل "جمال" عن الضباط الموجودين في غزة، وعندما سمع اسم الصاغ "محمود لبيب"، وعرف أنه منتدب في معسكر المتطوعين بغزة بناء على طلبه! لفت هذا انتباهه، وأشعل سيجارة وهو يفكر في معنى اهتمام "لبيب" بمعسكر المتطوعين تحديدا! كان يعرف أن "لبيب" أحد عناصر جماعة الإخوان المسلمين داخل الجيش المصري. وكان وجود عناصر لجماعة دينية داخل الجيش مقلقا له! فماذا يفعل"لبيب" هنا تحديدا؟ سؤال ستحمل إجابته أحداث الحرب مباشرة فيما بعد، لكنه في تلك اللحظة استدعى وهو في السيارة ذكرياته مع ذلك التنظيم. بدأت نقاط التماس بين "جمال" وبين الإخوان منذ كان في منقباد، بعيد تخرجه من الكلية الحربية، حيث التقى وزميله "عباس ناصر" بأحد الضباط الإخوان والذي بدأ يحاول استقطابهما، وعندما سأله "عباس" عن رأيه فيما سمع من الضابط الإخواني، وهل يفكر حقا في الانضمام لذلك التنظيم، أجابه - أكيد لأ! أنا مهتم بس بالتعرف على الشكل التنظيمي ودرجةاختراقهم لصفوف الجيش، لكن فكرة الانضمام ليهم دي انتهت للأبد يوم ما حضرت أنا وإنت درس التلات بتاع الشيخ "البنا". مصر وجيشها في ظل الاحتلال محتاجة الوطنية اللي تجمع مش الدعوات الدينية اللي تفرق، مش هيصلح أحوالها ظباط مرشدهمبيمد لهم إيده مقلوبة عشان يبوسوها! مصر مش هينقذها غير ظباط أحرار مش أتباع يا "عباس". ثم كانت نقطة التماس الثانية عندما دعاه "عبد المنعم عبد الرؤوف" للتعرف ببعض الضباط "الوطنيين"، وعندما التقى بهم كان منهم"لبيب" وعرف أنهم جميعا منتمون لتنظيم الإخوان. سمع منهم "جمال" في زيارته لمقرهم، ولم يتحدث كثيرا، ثم فارقهم ولم يصرح لهم بانطباعه. لكنه اعتذر عندما طلب منه "عبد الرؤوف" الانضمام للإخوان،بالقسم على المصحف والمسدس وصلت السيارة الهامر لمقر الكتيبة السادسة التي تسلم "جمال" قيادة أركانها فور وصوله، وبعد أن وضع حقيبة ملابسه في الغرفة الضيقة المخصصة لإقامته المؤقتة خرج يسأل عن الصاغ "محمود لبيب" فقيل له أنه في معسكر المتطوعين، فزادت شكوك "جمال"، واتجه نحو مخيم المتطوعين من فوره، لكنه لم يجد"لبيب" هناك في المعسكر سأل زميله اليوزباشي "أبو عوف" عن تركيبة المتطوعين فأجابه: - مصريين وسوريين وعراقيين ولبنانيين ومغاربة، واللي قدامك دول جزء من حوالي ۳۰۰۰ متطوع منتشرين في كل مناطق فلسطين[4].ا - يعني مش كلهم من الإخوان زي ما بعض الصحف بتقول في مصر؟ - أكيد فيهم عشرات من الإخوان، زي ما فيهم ماركسيين وقوميين! مش بس كدة، فيهم المسلم الشيعي والدرزي والمسيحي! هيبقوا إخوان إزاي دول؟! هكذا أجابه "عوف" ضاحكا، قبل أن يسأله "جمال": - وإيه دور الصاغ "محمود بك لبيب"؟ - ظابط من المتطوعين لتدريب القوات دي، لكن القائد هو طبعا القائمقام "أحمد عبد العزيز"، عمود المقاومة الصلب اللي جمع القوات اللي قدامك دي ودربها وجهزها قبل ما الدول العربية تقرر دخول الحرب. عاد"جمال" بعد هذه الجولة ليجد أمرا بالتحرك ظهر اليوم التالي إلى أسدود حتى تقوم الكتيبة السادسة باستلام مواقع الكتيبة التاسعة فيها. في المساء أضاء "ناصر" مصباح الكيروسين (لمبة الجاز) ووضع دفتره أمامه على بعض شكاير الرمال وسجل في سطرين أهم ما مر به في يومه! لم يكن اليوزباشي "جمال عبد الناصر" يعرف الأهمية التي ستحوزها تلك اليوميات ذات يوم! كان الضابط الشاب يكتب لنفسه يوميات أول حرب يدخلها، ولم يتصور أن عينا ستقع يوما على ما خطه بيديه! في الصباح كلف قائد الكتيبة اليوزباشي "جمال" بقيادة سرية استطلاع تتقدم الكتيبة عبر خط السير المرسوم، فتحرك "جمال" بجنود السرية من غزة في الواحدة والنصف ظهرا، متجها للشمال الشرقي حيث طلب منه اصطحاب جماعة مدافع الهاون ۳ رطل وجماعة المدافع 6 رطل المرابطة في قرية "دير سنيد"، ثم توجه نحو "المجدل" لتأمين خطر سير الكتيبة، فوجدها خالية من العناصر اليهودية. في المجدل رأى "جمال" بعضا من ملامح مصر! آثار العمارة المملوكية في مسجدها الكبير، ملامح أهلها السمراء الرائقة، وهذا الشيخ العجوز الجالس عند جزع الشجرة يغني لنفسه منفردا: وسألت الاسم؟ قالت لي: سارة زيِّك يا حلوِة مافي في الحارة قالت لي الزيجة بدها جسارة كلم أبويا .. ولا تيجي لهونا ذكرته الأغنية بأهازيج الريف والصوت الشجي لناي الصعيد! هذا الوطن العربي مشدود الأوصال بما هو أكثر من اللغة والتاريخ والعقائد! بمحصلتها جميعا؛ بالمزيج الحضاري المكون لشخصيته! في الرابعة عصرا وصلت سرية الاستطلاع لأسدود، ووجد "جمال" صديقه "حكيم" في انتظاره على مشارف الموقع، وحاول أن يصحبه لخيمته ليرتاح من عناء الطريق لكن "جمال" أجابه: - عاوز أمر على دفاعات الموقع الأول يا "حكيم"!ا - تعالى ناخد "الهامر" ونمر على الخطوط الأمامية، حظك حلو النهاردة هادي لحد دلوقت، إمبارح كان الضرب شغال طول الليل. اليهود حاولوا يهاجموا القوات، بس الحمد لله قدرنا نردهم رغم الخساير في الأرواح والمعدات. قفز "حكيم" لمقعد قيادة "الهامر" وركب "جمال" إلى جواره، وتحركت السيارة بمحازاة الخطوط الأمامية. تعجب "جمال" من اصطفاف جميع القوات على شكل خط بطول أربعة كيلومترات، فعلق قائلا: - إيه التهريج ده؟ الموقع كله خط أمامي؟ ومن غير دفاعات غير حفر الأفراد؟ مفيش عمق ولا قوات احتياط؟! طبعا لازم الخساير إمبارح تكون كبيرة بالشكل ده! - "الرحماني" بيه هو قائدالكتيبة يا سيدي، وإنت عارفه، عموما بكرة كتيبتك هتستلم الموقع وتقدر تغير الليإنت عايزه صمت "جمال" وهو يفكر في هذا الوضع الذي يراه! لم يكن يتوقع الكثير من التخطيط والتنظيم الاحترافي للمعركة، ولكن لهذه الدرجة من الإهمال؟ لم يكن يعرف أن عشرين عاما سوف تمر، ثم تحين معركة وهو في موقع القائد الأعلى، فتقع القيادة العسكرية التي كلفها بأخطاء فادحة مشابهة، ليظل هذا التشابه مصدر ألمه وكمده منذ وقعت الواقعة في ۱۹67م وحتى يلقى ربه