يرى أئمة القراءات والفقه والتفسير وشراح الحديث أن تعدد القراءات القرآنية جاء تيسيرا على القبائل العربية، وتسهيلا لفهمهم وتلاوتهم للنص القرآني، وعمدتهم في ذلك الحديث المتواتر في معناه، "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، وبالطبع لا يعني هذا الحديث الأئمة السبعة، الذين لم يكونوا قد ولدوا، كما أن قراءاتهم لم تشتهر في حياتهم، إذ إن أول من جمعها هو أبو بكر بن مجاهد المتوفى سنة 324 هجرية. ويرجح أئمة القراءات أن المراد ب"الأحرف" أوجه القراءة المختلفة، وتعدد طرق أداء بعض الكلمات القرآنية تيسيرا على القبائل العربية، ويسوقون في هذه المسألة عددا من الأحاديث، من أهمهما تلك المحاورة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين جبريل، الذي أخبر الرسول أن الله أمره أن يقرئ أمته القرآن على حرف، فقال النبي إن أمته لا تطيق ذلك، ومازال يراجع جبريل حتى قال له: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف. وفي الانتصار لعلة التيسير، يقول العلامة محمد علي خلف الحسيني، شيخ القراء بالديار المصرية في كتابه "الكواكب الدرية": إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل للخلق كافة، وألسنتهم مختلفة غاية الاختلاف، كما هو مشاهد فينا، ومن كان قبلنا مثلنا، وكلهم مخاطب بقراءة القرآن، فلو كلفوا كلهم النطق بلغة واحدة لشق ذلك عليهم". ورفع راية "التيسير" كعلة لتعدد القراءات يقبل ويفهم فيما يسميه علماء هذا الفن بالأصول، كالإدغام والإظهار، والفتح والإمالة والتقليل، وتحقيق الهمزات أو تسهيلها أو إبدالها أو إسقاطها، وتفخيم الراءات أو ترقيقها، ولكنه لا يفهم ولا يستقيم مع تغيير حركات الإعراب، أو الاختلاف في الجمع والإفراد، أو الخطاب والغيبة، أو إبدال حرف بحرف، أو حذف حرف أو كلمة، وكل ما كان من هذا الباب الذي يسميه أئمة القراءة ب"فرش الحروف". ودونكم أمثلة موضحة: فقوله تعالى "مالك يوم الدين"، قرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف في اختياره بمد الميم من "مالك" وقرأها الباقون بالقصر "ملك"، فهل يقبل عقلا أن يكون هذا الاختلاف للتيسير؟ هل توجد قبائل لا تستطيع أن تلفظ كلمة "مالك" بالمد؟ فكيف إذن قرأ جميع القراء آية آل عمران "قل اللهم مالك الملك"؟. وفي سورة البقرة، قوله تعالى: "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم"، قرأ نافع وابن كثير وأبوعمر، وما "يخادعون" إلا أنفسهم، بضم الياء وفتح الخاء بعدها ألف مد وكسر الدال، فيم قرأها الباقون "يخدعون" بفتح الياء وإسكان الخاء مقصورة بلا مد وفتح الدال، ولا يعقل أن نرجع هذا الاختلاف إلى التيسير على القبائل، لأن القراء العشرة اتفقوا على قراءة "يخادعون" الله.. واختلفوا في "وما يخادعون إلا أنفسهم". وفي سورة البقرة أيضا، قوله تعالى "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه"، قرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع كلمات، بينما قرأ الباقون برفع آدم ونصب كلمات، ولا يستقيم نسبة هذا الاختلاف إلى اللهجات، إذ هو خلاف إعرابي، يجعل من "آدم" فاعلا في وجه، مفعولا به في وجه ثاني. وفي سورة المائدة، قوله تعالى، "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"، قرأ نافع وعاصم وحمزة وخلف ويعقوب "والعين والأنف والأذن والسن والجروح" بنصب الكلمات الخمس، وقرأ الكسائي برفعها، فيما قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر بنصب الأربع الأولى ورفع "الجروح". ومن سورة الأنعام، نمثل بقوله تعالى: "لئن أنجانا من هذه".. قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف لفظة "أنجانا" بألف بعد الجيم، كما كتبناها، بينما قرأ الباقون بياء ساكنة بعد الجيم بعدها تاء مفتوحة "أنجيتنا". وفي سورة طه، قوله: "يوم يُنفخ في الصور"، قرأها أبو عمر البصري "نَنفُخ"، بنون مفتوحة وضم الفاء، فيما قرأ الباقون بياء مضمومة مع فتح الفاء. وفي سورة الأحزاب، انفرد حفص بضم الميم الأولى من "لا مقام لكم"، فيما قرأها الباقون بفتح الميم "مَقام"، وفي نفس السورة "والعنهم لعنا كبيرا"، قرأ عاصم لفظة "كبيرا" بالباء، وقرأها الباقون بالثاء "كثيرا". ومن أمثلة الاختلاف بين الجمع والإفراد، لفظة "مساكنهم، من قوله تعالى في سورة سبأ، "لقد كان لسبأ في مسكنهم آية"، فقد قرأها حفص وحمزة والكسائي "مسكنهم" بالإفراد، إلا أن الكسائي يكسر السين، فيما قرأها الباقون بالجمع "مساكنهم".