تعرف جماعات الخوارج في مصر أن شعبيتها انحسرت تماما، لتصبح قاصرة على عظام وأعصاب تنظيماتها، ويعرفون من نفور الناس منهم في الشوارع أن فرص تعاطف الجماهير معهم شبه صفرية! فما سر تلك الدعوات التي أطلقوها للتظاهر يوم الجمعة القادمة 28 نوفمبر (تشرين الثاني)؟ وبدأوا بروفاتها اليوم 21 نوفمبر برفع المصاحف في تظاهراتهم العشرية الهزيلة؟ نحاول هنا أن نفهم حقيقة تلك الدعوات، والهدف السياسي والتمويلي خلفها! يرى القيادي السابق بتنظيم الجهاد السيد "نبيل نعيم" أن تلك الدعوات تهدف لتشتيت الأمن، حتى تقوم الجماعات بأعمال إرهابية منتثرة هنا وهناك، وأنا أصدقه في أن أعمالا إرهابية سوف تقع في ذلك اليوم، وندعو الله أن يحبط الأمن معظمها وأن يحفظ الله مصر من شرها، لكن هذا ليس دافعا بذاته للإسراف في الدعاية لذلك اليوم، والتي امتدت حتى وصلت لتعليق لافتات في قطاع غزة!! وطبع ملصقات وتوزيع منشورات تسببت بالفعل في القبض على كثير من شبابهم أثناء توزيعها! وليست كذلك مبررا لاجتماع أعضاء التنظيم الإرهابي الدولي في استنبول الأسبوع الماضي لبحث ترتيبات ذلك اليوم! وأنا أرى أن فعاليات يوم الثورة المزعومة وما بعده من أيام، سواء في ذلك التظاهرات العشرية الهزيلة، أو الأعمال الإرهابية الحقيرة، هي في مجملها وسائل وليست هدفا بذاتها! وأن ما يقف خلفها هو دافعان أساسيان؛ دافع سياسي والآخر اقتصادي. الهدف السياسي للثورة الإسلامية المزعومة في علم التسويق هناك مفهوم "إعادة الطرح" في حالة فشل الحملة الترويجية الأولى للمنتج، حيث تتم إعادة طرحه بأسلوب جديد ورسالة ترويجية جديدة، وهذا ما تحاول جماعة الإخوان، مدعومة بقناعيها؛ السلفي (الجبهة السلفية) والجهادي (جماعة الجهاد). بعد فشل "مظلومية رابعة" في جذب أي قطاعات مؤثرة من الجماهير نحوهم، يقوم الإخوان بعملية "إعادة تموضع"، حيث يخلعون رداء المظلومية السياسية، ودعاوى "شرعية الصندوق" ذات المرجعية الديمقراطية، فقد أدركوا أن قطاعات الجماهير المصرية المؤيدة للدولة المدنية بعيدة عن التعاطف معهم، ولو ذبحوا عن آخرهم ذبح النعاج! فقرروا تعديل رسالتهم، ومحاولة جذب الشباب الأكثر تطرفا، والذي وجدوه متعاطفا مع "داعش". لقد أدرك الإخوان أن مزاعم "وسطيتهم" و"ديمقراطية صناديقهم" لن ينالوا معها بلح الشام ولا عنب اليمن! فقرروا أن ينسوا الجماهير العريضة ويركزوا في جمع نواة صلبة من الشباب التكفيري، الرافض للديمقراطية والتعددية، والمؤمن بأن الحكم لمن غلب بالسيف! لهذا صدروا أقنعتهم السلفية والجهادية لأنها أقرب لهذا النمط من الشباب التكفيري كواجهات!! لهذا كانت الدعوات في ذاتها هدفا سياسيا! وليس النزول في يوم "رفع المصاحف" ذاته! ولهذا جعلوا شعارهم "الثورة الإسلامية" وهم يدركون تماما أن الشعار زاد تنفيرا للجماهير العريضة بعد بشاعات داعش. ولا شك أنهم الآن يحاولون التواصل مع كل من نشر فكرة الدعوة على فيسبوك وتويتر!! لجمع نواة صلبة أكبر من نواتهم الحالية! ولهذا ينبغي التركيز الأمني الشديد على تتبع تلك النواة الصلبة، ليكون الأمن أسبق إليها منهم. أما فعاليات التظاهر والعمليات الإرهابية المخطط لها يومها، فسوف يكون لها عائد سياسي غير مباشر عليهم، هو إرهاق قوى الأمن، وما تحمله حالة الحشد الأمني لموازنة الدولة من نفقات باهظة، خاصة وهم سيحاولون المط والتطويل حتى لا تقتصر الفعاليات على يوم واحد! "لو نجحوا في ذلك"! ولهذا ينبغي أن يكون الحشد الأمني مرنا ومحسوبا بدقة، بحيث لا يكون أكثر ولا أقل مما ينبغي، ليتمكن الأمن من المواجهة الممتدة والمستمرة، بطريقة توازن بين إحباط عملياتهم حتى لا تؤثر على الاقتصاد المصري والاستثمار العربي المتنامي، وبين عدم إرهاق الدولة اقتصاديا بالحشد الزائد عن الحاجة! وهي معادلة صعبة لكنها ضرورية، فهم يعرفون أن نجاح الدولة في تعافي الاقتصاد سيكون بمثابة وضع شاهد على قبورهم للأبد!! الهدف التمويلي ليوم رفع المصاحف يجب أن يرى الممول الخارجي بين الحين والآخر عملا كبيرا ومؤثرا – ولو على المستوى الدعائي – يبرر له أمواله الطائلة التي ينفقها على المخربين!! كل جماعات العنف الديني تعرف تلك القاعدة، وتعمل وفقا لها. والمتابع المدقق لأداء الجماعة في الجامعات وفي الشارع في الشهور الأخيرة سيلاحظ مشكلة في مستوى التمويل، وكانت تلك الحملة الدعائية ضرورية لضخ الدماء الدولارية الجديدة في العروق المتيبسة! خاصة وقد رأى الممول الخارجي أن الجماعات التكفيرية (داعش وإخوتها) أكثر نجاعة من الجماعة المتشدقة كذبا بالاعتدال!! ويبقى بعد ذلك سؤال فلسفي: هل قدر المصحف الشريف ألا يرفع في تاريخنا القديم والجديد إلا في أوضع الحيل وأقذرها؟ وأن يكون "الرجوع إليه" و"الحكم بما فيه" كما وصفه الإمام علي في عبارته الخالدة "كلمة حق يراد بها باطل"؟ لقد وصفت الإخوان وأمثالهم بالخوارج في روايتي "انهيار برج بابل" والصادرة في 2009م، قبل شيوع الوصف حاليا، لكنهم اليوم صاروا يصنعون مزيجا بين جوهر الخوارج والجوهر الأموي، حيث استعاروا من الأموي حيلة رفع المصاحف والتمسح بحكم الله، آملين في إقبال بقية جماعات الخوارج الناقمة عليهم على الالتحام بهم كما فعل خوارج التاريخ عندما رفع الأموي المصاحف فوق الرماح!!