مصر؛ قبلة المثقفين، يقبلون عليها إقبالاً من كل فجٍ عميق، أرض الكنانة التي شدّ إليها يوسف الرحال حين رمى به إخوته في قاع جب، كيف يحيلها "شارلوك هولمز" إلى أرضٍ يولّون منها إدبارًا رغبةً منه في استرداد قرنه التاسع عشر؟ وكيف يُفتَّش أنبياء الكلمة بشكلٍ مهين لا يليق حتى بمهرّبين أو متسللين؟ من القرن الواحد والعشرين أخذوا القرن فقط؛ قرن غزال يغرسونه في أحشاء المعاصرين فكريًا (المحاصرين فكريًا). ولكن، في البدء كانت الكلمة، وفي المنتهى ستكون، ذلك ما لا يدركه "هولمز" لأن الفن لا يعرف الوسطية. قصتي مع شارلوك بدأت حين استوقفني على عتبات مصر، وأخذ يفتش بين أوراقي ليجد مستمسكين كلاهما كفيل – من وجهة نظره، وهو الذي يعاني تاريخيًا من وسواس قهري- بإدانتي بجرمين. الأول هو روايتي "تغريدة"؛ روايتي البكر والتي لا تزال وليدة، لم ترَ النور تمامًا، ولم تدرك بعد كمَّ الشارلوكيين المتربّصين بها. تصفّحها هولمز دون حتى أن يقرأها أو يلمّ بمضمونها ليعثر على صورة للسادات، كتفه بكتف موشيه ديان، فارتاب مدفوعًا بالبرانويا وخاف من الوقوع في المحظور، وقرر أن يمشي فجأةً وفقًا للقاعدة الدينية التي تنصّ على اجتناب مواطن الشبهات، وفي ذلك كان شأنه شأن المتطرّفين الجهلة الذين رموا نجيب محفوظ بالزندقة وحاولوا طعنه في عنقه التي طالما اشرأبت للفن والحرية، دون حتى أن يتكبّدوا عناء القراءة أو متعة الاكتشاف. وأنا تطلّعت إلى مصر مستجيرةً من الرمضاء بالبحار لا النار؛ مصر البحر الممتد القادر على حملي بفلكي المشحون دون استثقال أو مَن.كنتُ على يقين، ليست حوتًا يلتقمي ليلفظني ثانيةً في العراء، إن لم أسبّح بحمد الشارلوكيين. وليست قرصانًا يقطع عليّ الطريق ليجرّدني من حمولتي، وحمولتي ليست إلا بعض الأوراق والكثير من الأفكار المتفتحة كوردة. مصر التي كانت على مَرّ التاريخ أكبر من كلّ حيتانها. مصر التي كانت على مُرّ التاريخ أكرم منكل قراصنتها. الجرم الثاني كان هويتي الفلسطينية، والتي تبيّن أنها تهمة أكثر منها هوية، هكذا أوحت قسمات هولمز حين أبدى امتعاضه من تعريفي لنفسي، فقرر اجتناب "أوطان الشبهات" تكبيرًا لدماغه وتصغيرًا لشأنه. فأين أنت يا محمود درويش حين صرخت صرخة في السبعينات ووجهت نداءً للنقاد العرب قائلاً: "ارحمونا من هذا الحب القاتل!" أملاً منك في الموضوعية عند تناول الأدب الفلسطيني؟! رحمة الله عليك، ها هم قد رحموك ورحمونا، وفوق ذلك رجموك ورجمونا. أنا فلسطينية تحت الاحتلال، من الفلسطينيين المرقّمين بال 48، أي أني موسومة بالنكبة مختومة بختمها، ممّن تمسكوا بأرضهم ولايزالون يشكّلون شوكةً في حلق الدولة اليهودية، لو عرّفتُ نفسي كإسرائيلية لطبطب هولمز على كتفي وطالتني منه، زيادةً على التأشيرة، ابتسامة عريضة ودعوة من حرارتها تصل الرب في ساعتها، ولكن حين أقدّم نفسي على أني "فلسطينيّة العينين والوشم، فلسطينيّة الاسم، فلسطينية الأحلام والهم، فلسطينيّة المنديل والقدمين والجسم، فلسطينيّة الكلمات والصمت، فلسطينيّة الصوت، فلسطينيّة الميلاد والموت" يقع الإشكال! فهناك، شارلوكيون كُثر يعملون من قلبٍ ورب على تشويه وجه فلسطين الجميل، وتكميم أي صوت ديمقراطي عقلاني مقاوم ينطق باسمها وباسم الحرية؟ في مصلحة من يصب هذا؟! ليس شارلوك إلا جزءًا من منظومة كاملة نراها اليوم تتنكر لفلسطين الضحية وفلسطين المقاومة (وهي مفاهيم غير كافية في كل الحلات للدلالة على الواقع الفلسطيني)، وتظهرها كفلسطين التطرّف وفلسطين الإرهاب، وأنا لست بمتطرفة ولا إرهابية ولهذا تأشيرتي مرفوضة رفضًا قاطعًا ومفتوحًا، فالأزمةً ليست حدودية كما قال "ناصر القومية" وإنما وجودية! ومصر؟! مصر التي ترامت أطرافها فى روايات محفوظ وقصص إدريس ونصوص صنع الله إبراهيم فامتدت لتطال الوعي العربي، وتتضخم فيه كنموذجٍ فيه من الأصالة ما يمكّنه من استيعاب الحداثة، مصر رمز الحضارة والانفتاح في آن، كيف توصد أبوابها؟ مصر التي تحوّلت بعمالقتها إلى النموذج العربي الأمثل الذي يتحقق فيه الفن والأدب؛ مصر "واسطة العِقد" كيف تلوذ بنفسها وتأخذ من العقد طرفًا وتكتفي بذلك؟! من مصر تلقّيت دعوةً بحضور ندوات كانت ستُقام على شرف الرواية، احتفاءً بها من قِبل مجموعة من المثقفين العارفين بالأدب، جاءت الدعوة عن طريق اتحاد الكتّاب العرب إلى السفارة هنا، ولكنّ شارلوك الذي لا يزال مرتديًا معطفه الأسود الطويل وقبعته البرجوازية، تحت معطفه سياسات داخلية، وتحت قبعته عقل عفا عليه الزمن رفض تأشيرتي مدّعيًا أنّ دخولي سيشكّل زعزعةً للأمن القومي! شارلوك الذي لا يزال يعتمد على حدسه الخائب في اكتشاف جانٍ غائب، جاء ليحقق التصوّر الذي تطرحه الرواية: أزمة الفنان في مواجهة المجتمع والسلطة، وها هو الواقع المُتخيّل يداهمني وجهًا لوجه بصفعةٍ على الوجه فأيّ مفارقةٍ هذه! في دار ميريت، في وسط البلد، قلب مصر النابض نشرت روايتي، وصار لي فيها أهلٌ أشدد بهم أزري من أدناها إلى أقصاها. احتضنتني مصر حين ضاقت بي الدنيا، وكانت كإيزيس التي تلملم ما افترق مِن أشلاء مَن تُحب، كانت إلهة متمردة لا تحتكم حتى لقانونية الطبيعة! فكيف يسخر منا القدر بتحقق مقولة الفنان محمد صبحي "سيادة الفريق اقفل على نفسك، اقفل على مصر، اقفل على أبوابها"؟! نخب الحرية يا شارلوك، ها هي قد أقفلت على أصابعنا، فاقفل ملفّ القضية وكفِّن الفن بمزاج.. مع سيجارة.. وعلى رويّة!