فى عالم الكتاب الحكم دائما للقارئ ، فهناك أعمال متميزة و لكن أهيل فوقها التراب لعزوف القراء عنها ، فى حين كتب لبعضها النجاح الباهر لإهتمام القارئ بها ، و هكذا يحدث لمؤلفيها و شخصيات قصصهم و روايتهم فإما يعلو نجمهم فى السماء أو يظلوا مغمورين خلف الكواليس . لدينا نموذج الكاتبة الشهيرة و شخصياتها التى اكتسبت نفس الشهرة مثل الكاتبة جاين أوستن فهى من أكثر الأدباء شهرة و استطاعت بعض شخصيات روايتها أن تسطع فى عالم الشهرة ، و أحبها القراء و صنعوا لها و لشخصياتها صفحات للمعجبين مثل مستر دارسى و اليزابيث بينت فى " برايد أند برجيدز " الكبرياء و التحامل ، و كذلك روايتها " ايما " التى اكتسبت شخصيتها ايما أيضا شهرة واسعة .
و المفارقة أن جاين أوستن كانت تكتب تحت اسم مستعار فلم يكن يسمح للمرأة دخول عالم الكتابة ، و لم يكشف عن اسمها الحقيقى إلا بعد موتها لتحقق شهرة واسعة لم تحققها فى حياتها .
و لدينا نموذج آخر عن كتاب اكتسبوا شهرة واسعة لم تحصل عليها أى من شخصياتهم ، كالكاتبة أجاثا كريستى التى استطاعت بروايتها البوليسية ذائعة الصيت أن تضع بصمتها فى عالم الأدب و الشهرة ، فى حين لم تشتهر أى من الشخصيات التى صنعتها ، و كانت البطولة دائما فى قصصها للحبكة ، فاقت أعمال أجاثا فى انتشارها روايات شارلوك هولمز و ترجمت إلى لغات أكثر منه ، و مع هذا فشهرة الشخصيات التى ابتكرتها أجاثا لا تقارب فى شهرتها و جاذبيتها شخصية شارلوك هولمز و لا حتى مساعده المعروف " دكتور واطسون " .
و لكن من منكم يعرف سير " آرثر كونان دويل " ، نحن الآن بصدد أمر مختلف كليا كاتب سلسلة من أنجح الكتب و أشهرها ، و لكن من خطف منه أضواء الشهرة هو الشخصية التى نسجها بنفسه من خياله " شارلوك هولمز " لتطغى شهرته على شهرة مؤلفه ، حتى و صلت شهرته أن العديد كان و مازال يظن أنه شخصية حقيقية ، و هولمز هو محقق خاص " بوليس سرى " و هى مهنة معترف بها فى الغرب ، و هو يقيم فى منزله الشهير فى العقار " 221 بى " شارع بيكر بلندن .
و من كثرة اعتقاد البعض أنه حقيقى كانوا يرسلون فى المناسبات و الأعياد الهدايا على هذا العنوان ، فهولمز ظهر فى زمن لم يتعود فيه الناس على وجود أشخاص خيالين فظنوه حقيقى ، كما أن عبقرية دويل و اهتمامه بأدق التفاصيل و خياله الخصب ، سهل عليهم تصور الخيال واقع .
و يرى البعض أن شخصية شارلوك هولمز من أهم الشخصيات الخيالية فى العصر الحديث و ليس فقط شارلوك هولمز بل أيضا مساعده الدكتور واطسون اكتسب شهرة كبيرة ، و البروفيسور " موريارتى " العالم الشرير " نابليون الجريمة " ، و المفتش " ليسترايد " و الذى بالرغم من كفاءته يبدو سطحى فى تفكيره فى تعقب المجرمين ، و فى النهاية يسلم بعبقرية منطق هولمز فى التوصل للمجرم الحقيقى و تقديمه للعدالة .
و أسس آرثر بذلك نموذج ناجح للأدب البوليسى أخذه عنه العديد من الكتاب منهم آجاثا ، و مازال هذا النموذج مستمر حتى الآن ، و بالإضافة لحبكته القوية كان يعتمد على العقل و المنطق فى كتباته بشكل كبير ، و اعتمد على " علم النفس الجنائى " ، ليصبح بعد ذلك من العلوم التى تدرس فى أكاديميات الشرطة ، و استطاع أن يعرف الناس على العلوم البوليسية فى مرحلة مبكرة جدا ، فقبل ظهور المعمل الجنائى استخدم دويل الكيمياء و سخر العلم فى الكشف عن الجريمة ، و برغم أن شخصية هولمز لم تدرس الطب و لكنه كان ملم بشكل كبير بعلوم التشريح و خبير فى السموم و آثارها ، مما جعله قريبا من شخصية صانعه .
فكان آرثر دويل طبيب انجليزى أصبح فيما بعد أشهر كاتب للأدب البوليسى ، كان آرثرمتعدد المواهب و على الرغم أنه لم يكن ذائع الصيت حتى كطبيب و لكنه كان معروف بأنه رياضى ماهر ، كما كان خطيب و محاور و محاضر بارع له آراء متميزة فى السياسة و الأدب و شئون المجتمع و الطب و العلوم ، و ليس ذلك فقط فكان كاتب موهوب بالصحف .
و كانت أوائل كتاباته تقتصر على الألغاز و القصص القصيرة ، و من أوائل كتباته فى السيرة الذاتية عام 1924 م بعنوان " ذكريات و مغامرات " ، و للكاتب أعمال أخرى هامة لا يظهر فيها هولمز و هى رواية الخيال العلمى " العالم المفقود ".
بدأ آرثر فى نشر قصص " شارلوك هولمز " مع احتفال الكريسماس فى 1887 م ، و كانت أولى المغامرات بعنوان " الدراسة القرمزية " و لم يلقى الكتاب نجاح يذكر .
جاء التشجيع من خارج إنجلترا ، فتحمس الناشرون الأمريكيون لشخصية هولمز و توقعوا لها نجاح باهر و دعموا آرثر ، ليصدر السلسلة الثانية لهولمز فى 1890 م بعنوان " علامة الأربعة " ، و بدأت الشهرة الواسعة لهولمز بعد نشر قصصه مسلسلة فى مجلة " ذى ستراند مجازين " الشهرية المصورة فى 1892 م .
" مغامرات شارلوك هولمز "كان عنوان أول سلسلة تنشر عن هولمز و استقبلت بنجاح غير مسبوق ، و ارتبط اسم المجلة بعد ذلك بهولمز لتتراجع موادها الأخرى لتصبح مواد ثانوية ، فالقارئ يشتريها بسبب هولمز وحده ، و نشرت السلسلة الثانية بعنوان " مذكرات شارلوك هولمز " فى 1894 م و كان البوليس السرى وقتها حديث المجتمع الإنجليزى ، و أهم الكتب و أكثرها تميزا الذى كتبها آرثر عن هولمز هى رواية " وادى الرعب " عام 1915 .
وصلت مؤلفات آرثر عن هولمز إلى 10 كتب كل كتاب يمثل سلسلة كاملة بدءا من " الدراسة القرمزية " فى 1887 ، انتهاءا بكتاب " سجل شارلوك هولمز " عام 1927 م ، فنشرت مغامرات هولمز الأصلية لمدة " 40 سنة " ، ثم استمر إعادة نشرها دون توقف .
اتجه دويل للكتابة للمسرح فى 1910 ، فحول بعض كتبه لمسرحيات ، و من أشهر من مثل " هولمز " هو الممثل و الكاتب الأمريكى " ويليم جيليت " فاستمر فى تجسيد الشخصية لمدة 30 سنة متواصلة ، و اهتم به المنتجون فدخل هولمز عالم الإذاعة و التلفزيون و السينما ، كما اخترق أيضا عالم الباليه ، و حقق الرقم القياسى فى عدد الأفلام التى صنعت عن الشخصية فحتى عام 1984 فقط وصلوا إلى 186 فيلما .
و كما لا يعلم الكثير عن آرثر فأيضا لا يعلمون عن سيدنى باجيت الذى خط بريشته ملامح " هولمز " و أحداث مغامراته ، ليجتمع موهبتان روائية و تشكيلية فى بصمة واحدة لصنع شخصية هولمز التى وضعته فى قالب مميز مازال يرتبط فى الأذهان أن المحقق يجب ان يدخن الغليون و يرتدى البالطو و الكاب و عدسته المكبرة ، و آلة الكمان التى يمضى وقتا طويلا فى العزف عليها .
انتشرت روايات هولمز فى جميع أنحاء العالم العربى ، و دخلت إلى مصر منذ الثلاثنيات ، و أول مجلة عرضت مغامراته كانت " اللطائف المصورة " و بعدها " روايات الجيب " و " دار الهلال " .
عندما مات دويل لم يهتم الكثير و لكن عندما أراد قتل شارلوك هولمز بعد 6 سنوات فقط من ميلاد الشخصية ثار القراء ، حاول دويل أن يصنع بطلا جديد و سلسلة جديدة أسماها " مغامرات جيرارد " و كانت تحكى عن ظابط فى الجيش و لكنها كانت السلسلة الأولى و الأخيرة ، فلم يقدر لها النجاح ، و العديد أرجع قيامه بذلك لشعوره أن هولمز أصبح أهم منه شخصيا ، و أصبح هو من يعيش فى ظله و هو صانعه ، أو أنه أصابه الملل الذى يصيب الأدباء ، أو ربما شعر بالقلق من عدم المحافظة على النجاح الذى وصل إليه .
و جاء مقتل هولمز فى قصة " المشكلة الأخيرة " و هى آخر قصة فى سلسلة مذكرات شارلوك هولمز ، و لكن عندما احتج القراء بشكل فاق كل التوقعات ، اضطر دويل لإعادة بطله للحياة ، و لم يجد صعوبة فى ذلك فمن السهل إعادة شخصية خيالية للحياة ، خاصة أن المشهد الأخير الذى يمثل ذروة الصراع بين هولمز و موريارتى ، سقط فيه هولمز من أعلى منطقة منحدرة أعلى الشلالات ، فعندما قرر إعادته ، جعله يعود ليحكى أن من سقط كان موريارتى و ليس هو و هكذا خرج من معضلة كبيرة !!
بعد رحيل دويل عام 1930 ، استمر " شارلوك هولمز " مخلدا فى عالم الأدب البوليسى ، و قام العديد من الكتاب بتتبع خطى دويل فى الكتابة عن هولمز .