عجيب أمر هذه النزعة الانتقائية التى يتعامل بها الضمير الإنسانى مع الجرائم التى ترتكب يوميا فى حق الإنسان، ولعل الموقف الدولى المتخاذل والمخزى تجاه العدوان الصهيونى الأخير على أهل غزة، وعصفها الدائم بكل قيم العدل والإنسانية، خير دليل على هذه الانتقائية المحيرة والمريبة، ففى الوقت الذى تنشط فيه جهات كثيرة للدفاع عن حق أنواع من الحيوانات فى العيش الآمن – لاسيما المهدد بالانقراض منها – نجد أن صمتا مطبقا يسيطر على الجميع أمام جرائم وحشية ترتكب فى أماكن كثيرة ضد الانسان، والغريب فى الأمر – والمحزن أيضا – أن نرى دولا كبرى تدعي رفع لواء الحرية والعدل بينما هى تتواطأ مع المعتدى الغاشم وتغض الطرف عن انتهاكاته وجرائمه فى مقابل مكاسب مادية، بل بدون مقابل يذكر فى أحيان كثيرة اللهم إلا تثبيت الصورة الذهنية التى تم ترويجها لهذه القضية أو تلك. وتأتى القضية العربية الكبرى، وهى مأساة فلسطين الجريحة، فى مقدمة القضايا التى لعب فيها التواطؤ دورا كبيرا، كما كان للغفلة العربية والفرقة الدور البارز فى هذه الفاجعة التى ستبقى شاهدة على وحشية الانسان ودمويته، ولم يكن مستغربا أن تقف الولاياتالمتحدةالأمريكية موقفها المدافع والداعم للكيان الصهيونى المغتصب، فأمريكا ذاتها تأسست بعد إفناء وقتل الجنس الأصلى الذى كان يعيش على هذه الأرض، حتى أن تسميتهم باسم "الهنود الحمر" هو نوع من التدليس التاريخى الذى مارسه المستكشفون الذين أسالت خيرات البلاد الجديدة لعابهم فأعملوا أسلحتهم فى سبيل إفناء سكان البلاد وإقامة كيان استعمارى على أنقاضهم، وكما كان القتلة والمغتصبون والخارجين على القانون هم نواة تكوين هذه المستعمرة الغربية الجديدة، فلقد ورثت هى بعد ذلك تلك النزعة الاستعمارية وانتظمت على ذات الطريق الوحشى الذى صار علية المستعمر الغربى القديم، وشيئا فشيئا أصبحت أمريكا هى الوريث الاستعمارى للامبراطورية الرومانية القديمة وللدول الاستعمارية الحديثة التى أفنت أجناسا بشرية – وماتزال – فى سعى دائم لاستغلال ثروات بلادهم. والغريب فى الأمر أن الإنسان يزداد توحشا ودموية كلما امتلك المزيد من مقومات القوة والعلم، وبعدما كان يقف فى قديم الزمان عاجزا أمام قوى الطبيعة غير قادر على فك طلاسمها، نجده الآن يقف عاجزا أمام فك طلاسم شروره وغير قادر على كبح جماح الوحشية الكامنة بداخله منذ عصور سحيقة مضت، وكان من المتوقع أن تسهم العلوم الإنسانية والاكتشافات العلمية الحديثة المتتابعة فى تهذيب النفس البشرية وفى تحللها بشكل أو بآخر من النزعات الدموية التى تتراكم بداخلها على مر العصور والتى تتوارثها الأجيال المتعاقبة كما تتوارث المال والأرض والعقار وغيرها من متاع الحياة، لكن الذى يحدث على أرض الواقع هو عكس ذلك تماما، فالعلوم الإنسانية يتم استخدامها للتكريس لتفوق عنصر بشرى على آخر وللتأكيد على تفرد وهمى لا محل له من المنطق، والاكتشافات العلمية تسهم فى إفناء الانسان وتهديد حياته وتشتيته، إن العالم الحديث يعانى من أزمة فى الضمير الإنسانى الذى اعتاد الصمت والتواطؤ، وبغياب الضمير سيظل الإنسان يدور فى حلقة مفرغة من الوحشية والدموية والقبح.