هاجر حمزة _ دعاء محمد حرص المصريون في العصور القديمة على النظافة الخاصة، فبنوا الحمامات العامة التي بهرت الرحالة الأجانب وعلماء الحملة الفرنسية الذين زاروا مصر واعتبروها مظهرا حضاريا أفضل مما كان موجودا في أوربا في الفترة نفسها، كما يؤكد الكثير من المؤرخين أن أول من أنشأ الحمام هم الفراعنة. وعندما قررت اليابان خلال عام 1862، إرسال «بعثة الساموراى»، إلى مصر، ضمن جولة فى عدد من البلاد، للوقوف على أسباب نهضتها وتقدمها للإفادة منها، نزلت البعثة فى ميناء السويس، واستقل أعضاؤها القطارَ من السويس إلى القاهرة؛ حيث قضوا ثلاث ليالٍ، زاروا خلالها العديد من الأماكن كالقلعة ومسجد محمد على والأهرامات، ومن القاهرة استقلوا القطار أيضًا إلى الإسكندرية، لمواصلة رحلتهم إلى أوروبا التى بدأت بفرنسا؛ وفى طريق العودة مروا بالطريق نفسه، حيث لم يكن العمل فى شق قناة السويس انتهى بعد، وأشادوا بالقطار وسرعته، وبنظافة المراحيض العامة، والتليغراف، الذى اعتبروه دليلاً على الرخاء الاقتصادى الذى تعيشه مصر!. قذارة وظلام وروائح مميتة وأسلاك كهرباء مكشوفة قالت السيدة منى حلمي – موظفة ولديها ثلاثة أطفال، إن أبناءها الذين تجاوزوا مرحلة ارتداء الحفاظات عندما يحتاجون دخول الحمام، ونظرا لطبيعة عملها في محيط ميدان التحرير تضطر إلى إدخال أولادها المراحيض العامة والتي وصفتها ب"المقززة". فالحمامات من الداخل غير آدمية على الإطلاق، والقاذروات تتناثر في كل بقعة على الأرض والجدران، والمشهد كله مثير للاشمئزاز والغثيان، ولا يصح ان يراه طفل أو كبير، خاصة مع عدم وجود إضاءة بالداخل وهو ما يخيف الأطفال وأمهم أيضا، فضلا عن انقطاع المياه أغلب الوقت؛ وهذا ما يتسبب في انبعاث روائح كريهة لا تطاق، ويمكن أن تصيب بالقئ والموت. وأضافت أن «الكارثة إن فيه أسلاك كهربا كتير مكشوفة جوه، يعني رضينا بكل القرف ده بس كله إلا إن ولادنا يموتوا قدام عنينا»، مطالبة بأن تتولى شركة نظافة الإشراف على هذه الحمامات ويستفيدوا هم من الرسوم التي يحصلها البلطجية من المواطنين دون وجه حق، فالناس لا ترفض ذلك وبالتالي فمن حقهم أن يقضوا حاجتهم في مكان خال من القاذورات والأمراض. حمام السيدات مغلق منذ سنوات.. والحي يحصل المال ولا يتولى النظافة "سعر التذكرة جنيه".. أسفل هذه اللافتة الموجودة في محيط موقف عبد المنعم رياض، يجلس رجل في العقد الخامس من عمره، مسئول عن قطع التذاكر لكل من يريد دخول الحمام، وعندما توجهت إليه فتاة أخبرها أن حمام السيدات لا يعمل منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأن الحل هو دخول أحد المراحيض في مول أو مطعم وأن الجميع "يتصرف" وفقا للإمكانيات الموجودة. وقال إن حمام الرجال يعمل كل يوم منذ الثامنة صباحا حتى الواحدة ليلا؛ وبعد هذا التوقيت فهم غير مسئولين عن أي فرد يريد قضاء حاجته، قائلا: "الناس مش بيرضو يدفعوا الجنيه وبيتبولو في الشارع عشان أغلبهم مش معاه فلوس ياكل بيها، فمابالك بالحمام؟" وأكد أن هذا الحمام تابع لحي غرب القاهرة، وهذا ما يظهر في التذاكر الموجودة بحوزته، وهم يحصلون المال فقط دون الاهتمام بالنظافة أو الإشراف الصحي على المراحيض. تجارة حمامات المطاعم قالت شاهيناز صبرى – مدرسة ابتدائي، كنت لى تجربة مع أختى الصغيرة، حيث دخلت أحد الحمامات العامة الموجودة بجوار محطة مصر بشارع الجلاء، ورغم أنه حمام عام ويفترض أن يكون مجاني ولا تحصل فيه أى رسوم، فإن سيدة ممتلئة الجسم كانت تجلس مستأسدة أمامه، وفرضت علينا دفع 3جنيهات، ولم تفعل سوى محاولة تنظيف عقيمة و"تمثيلية" لحمام ملىء بالقاذورات لم تسفر عن شيء. وأضافت أن أختها لم تتمكن من قضاء حاجتها نظرا لاتساخ الحمام، مشيرة إلى أنهن اضطررن للخروج مسرعين بعد أن تقيأت أختها بالداخل من فرط القذارة والرائحة الكريهة، والذهاب إلى إحدى المطاعم التي أصبحت تمارس تجارة "الحمامات" فكل مطعم يعلق ورقة أن سعر دخول الحمام لغير زبائن المحل 3 جنيهات، حتى إن "جروبى" فى طلعت حرب أيضا يحصل على جنيه واحد لدخول الحمام، أما مطعم "أبو طارق" فهو يترك الدفع وفقا لذوق الزبون الذى يعطى العامل ما يريد. «غياب النظافة» شعار الدولة المصرية الحالي قال سيد مراد – مصور صحفى، إنه لا يستطيع دخول الحمامات العامة، رغم احتياجه الشديد يوميا ليكون فى الشارع أكبر وقت ممكن نظرا لطبيعة عمله وتجواله الدائم، فهو يرى أن هذه الحمامات القذرة بوابة مرور عشرات من الأمراض الفيروسية والوبائية، مشيرا إلى أن النظافة الغائبة صارت أحد معالم الدولة المصرية فى الشارع أو المؤسسات الحكومية، ويمكنكم طلوع مجمع التحرير، أكبر مبنى إدارى فى مصر لنجد أن الأدوار والسلالم تحولت إلى مراحيض عامة للتبول. النشاط: صباحا مراحيض عامة.. ومساء وكر دعارة ومخدرات وعندما رأينا أحد المواطنين يتبول أسفل كوبرى أكتوبر، سألناه بعدها: لماذا تفعل ذلك أمام الناس وكيف لا تخجل؟، أجاب: «هى الحكومة اتكسفت مننا لما ما وفرتش لنا حمامات نقضى فيها حاجتنا؟، أعمل إيه يعنى؟، بدل ما بتحاسبينى روحى شوفى المسئولين اللى حماماتهم مكيفة!». أضاف فهمى مجاور – موظف بالسكة الحديد، إن قضاء الحاجة هذه الأيام يمكن أن يكلف الشخص حياته، فقد دخل فى وقت متأخر من مساء أحد الأيام، حمامات موقف عبد المنعم رياض الهرمية الشكل وفوجئ باثنين من المدمنين يتعاطيان الحقن المخدرة داخلها، وعندما شاهداه، انهالا عليه بالسباب ليخرج ويتركهما. وأوضح أن أحد الأصدقاء أخبره أن هذه الحمامات تتحول فى المساء إلى بيوت دعارة قذرة، حيث يصطحب أطفال الشوارع بعضهم بعضا لممارسة الجنس داخلها في غياب تام للرقابة. مرضى السكر لا يجدون إلا العودة لارتداء الحفاظات بينما قال جورج ميلاد حنا – 52 عاما: أعانى من السكر وأحتاج دخول الحمام كل ساعة تقريبا، ونظرا لغياب الحمامات العامة وخطورة بقائى ساعات طويلة دون قضاء الحاجة، قررت عند نزولى يوميا أن ألجأ إلى استخدام الحفاظات ذات الحجم الكبير. وأضاف باكيا: «السن والمرض لهم حكمهم يا بناتى.. الشارع المصرى أصبح خاليا من أى خدمات تقدم للمواطن، فلم تعد هناك أرصفة ممهدة لكبار السن ولا حمامات عامة، رغم أنه فى الستينات كانت تملأ الشوارع وكانت نظيفة وبالمجان. أحتاج من الرئيس القادم رؤية شاملة للنهوض بحال الشارع المصرى، عليه أن يشعر بهولاء الذين يتكدسون يوميا فى المواصلات ساعات طويلة دون تكييف مماثل لعربات المسئولين، ويضطرون لارتداء حفاظات للحفاظ على ما تبقى من كرامتهم في الشارع أمام الناس». سائحة فقدت الوعي عندما رأت مصريا يقضي حاجته أمام المتحف وقالت نرمين عباس – محاسبة – شوارع مصر كلها تحولت إلى مراحيض عامة مفتوحة، يكفى أن تنظروا أسفل أى كوبرى أو إحدى زوايا الأرصفة أو حتى على الكورنيش، فقد رأيت احدهم يتبول أمام وزارة الخارجية فى أحد الأيام دون خجل. وتقول جاكلين مراد – مرشدة سياحية، إن التبول فى الشارع ظاهرة تنفرد بها مصر، وكم تشعر بالخجل خاصة فى التحرير عندما يأتى السائحون لزيارة المتحف، ويكون أحد المواطنين يتباهى بوقوفه في الشارع يقضى حاجته، مشيرة إلى أن إحدى السائحات ذات مرة سقطت مغشيا عليها عندما رأت هذا المشهد أمامها عقب خروجها من المتحف، وظلت تصرخ فى هيستريا بعد أن أفاقت. وذكرت إحدى التقارير في عام 2013 الصادرة عن غرفة عمليات الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة أن الهيئة رصدت دورات المياه في محافظة القاهرة لتبلغ 141 دورة مياه، ويعمل منها 68 فقط، فيما لا تستخدم 73 دورة مياه لأسباب عدة من بينها عدم وجود عمال أو استيلاء البلطجية عليها أو لحاجتها لرفع الكفاءة. وأوضح أنه لا تتواجد أي دورات مياه في أحياء السلام ثانِ، المرج، ودار السلام، فإن أغلب دورات المياه لم تعد تعمل في كل من الأحياء التالية: الأزبكية، باب الشعرية، البساتين، المقطم، منشأة ناصر، المطرية، مصر الجديدة، عين شمس، الزاوية، والزيتون. البعض يختار حلل «حبس البول» تقول هند أحمد – صحفية، أنا باقرف أدخل أى حمامات عامة أو حمامات مطاعم فكلها أماكن غير آمنة على الإطلاق، وتقريبا منذ خروجى من المنزل فى العاشرة صباحا حتى العودة فى المساء لا أقضى حاجتى، رغم نصيحة أمى بخطورة ذلك على كليتى، إلا أننى أخاف من إصابتى بأى أمراض من دخول هذه الحمامات القذرة. وعن أضرار هذا السلوك وخطورة حبس البول طوال هذه الساعات قال الدكتور جورج هنرى – استشارى جراحة المسالك البولية والأمراض التناسلية بطب القاهرة، نحن ننصح دائما باستخدام دورات المياه كل ثلاث ساعات، لأن كثيرا من المرضى يعانون من مشكلات في المثانة بسبب حبس البول يوميا أثناء ذهابهم للعمل أو التسوق أو غيره، لافتا إلى أنه إذا لم يتبول الشخص بانتظام فإن ذلك قد يؤدي إلى ما يعرف ب "المثانة الكسلانة"، حيث إن المثانة الممتلئة تفقد خاصية الانقباض وهذا بدوره يؤدي إلى التهابات بولية وتضخم الكليتين أو ارتجاع البول من المثانة إلى الكليتين. وأوضح «هنرى» أن كثيرا من الأمراض تنتقل من الحمامات التي لا تتوافر فيها النظافة والتعقيم، وهذه الأمراض تنقل جميع أنواع الميكروبات مثل البكتيريا والفيروسات والفطريات والديدان المعوية، مشددا على أهمية توفير الدولة حمامات عامة تتوافر بها درجة كبيرة من التنظيف بشكل دوري خلال اليوم، ومطالبا الإدارت المسئولة عن هذه الحمامات بتوعية المواطنين بملاحظات على الجدران ورسوم حول أهمية النظافة والغسل المستمر للأيدي قبل تناول الطعام وبعده وبعد استخدام المراحيض. في النهاية.. «البديل» تؤكد خطورة هذا الملف على الصحة العامة للمصريين، وترى أن الجميع عليه أن يضطلع بدوره المطالب به بشجاعة، وقد لجأت الدولة قبل الثورة بسنوات إلى استيراد الحمامات الإلكترونية التي تنظف نفسها ذاتيا وتحصل من المستخدم المال ذاتيا كذلك، إلا أنها تحولت سريعا إلى قطع من الصفيح. أما على الجانب التشريعي، فبعض الدول كفرنسا، تفرض غرامة على كل من تسول له نفسه أن يتبول في الشارع. ولا شك أن التفكير في أي حل مهما تفرعت آلياته، فإنه لن يخرج عن هذين المحورين. توفير البديل، ووضع الضابط الذي يضمن زيادة في التشويه وزيادة في تحويل مصر التي كانت رائدة وقائدة في عصور ظلام الدنيا، إلى مجرد مراحيض كبيرة مكشوفة.