شغل ولم يزل يشغل سؤال التحديث الحيّز المركزي في المشروعات الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، وكذلك المشروعات السياسية. وتنوعت أساليب الحل المقترحة، للخروج بمصر من حالة التدهور الحضاري والتبعية السياسية إلى مرحلة الحداثة والاستقلال. وكانت العلاقة بين التراث والغرب، بين الدول العربية والإسلامية والكتلة الشرقية من جانب، والغرب من جانب آخر، لذلك هي الإشكالية الأساسية أمام المفكرين والسياسيين على حد سواء. وقد تعاصر في فترة دقيقة من حياة مصر المعاصرة اثنان من أهم أصحاب رؤى التحديث، أحدهما عسكري وسياسي هو محمد نجيب (1901-1984)، أول رؤساء مصر، وثانيهما هو عبد الرحمن بدوي (1917-2002)، الفيلسوف الوجودي المصري، أول فلاسفة مصر على حد تعبير طه حسين. وفي السيرة الذاتية لكل منهما: "كنتُ رئيسًا لمصر" بقلم نجيب، و"سيرة حياتي" لبدوي، تتجلى كثير من نقاط الاشتراك الشخصية، كما تتباعد الرؤى بعد ذلك بخصوص مشروع التحديث الفكري والاجتماعي، فتكشف المقارنة عن التباين بين عقلية السياسي العسكري صاحب التطبيق من جهة، وعقلية السياسي الفيلسوف صاحب النظرية من جهة أخرى. ومن الطريف أن السيرة الذاتية في الحالتين تبدأ بما يعني "أن ميلادي كان صدفة، كورقة شجر في مهب الريح، وكان يمكن ألا يقع"، وبينما نشأ نجيب في أسرة فقيرة، نشأ بدوي في أسرة ميسورة الحال، تفوق نجيب في دراسة العلوم العسكرية، وتفوق بدوي في دراسة الفلسفة، هاجر نجيب إلى الشمال (من السودان إلى مصر)، وكذلك تم ابتعاث بدوي إلى الشمال (من مصر إلى ألمانيا وإيطاليا لمدة أربعة أشهر)، صار نجيب لواء في الجيش المصري ذا سمعة رفيعة، وأصبح بدوي أستاذًا في جامعة القاهرة ذا احترام أكاديمي بالغ. والتقى خيطا الحياة والمصير في لجنة إعداد دستور 1954، حيث دُعي بدوي ليكون عضوًا بها، بعد أن قام نجيب بخلع الملك وإعلان الجمهورية. ولكن التأميم حجّم ثروة أسرة بدوي الغنية، ولم يتقاض-بحسبه-أية تعويضات حتى عهد مبارك، كما تم ضرب عرض الحائط بآراء بدوي وغيره في لجنة إعداد الدستور فيما بعد، وظل بدوي لهذا ساخطًا حتى وفاته على ثورة يوليو وعلى الضباط الأحرار وعلى ناصر خاصة. بينما سخط نجيب عليهم لأسباب أخرى، وفي النهاية تم اعتقال نجيب وتحديد إقامته حتى عام 1971، بينما رحل بدوي إلى أوروبا والبلاد العربية وإيران للتدريس والبحث، ولم يعد إلا قبيل وفاته بشهور. وأثناء الحرب العالمية الثانية كان نجيب يرى أن تعاون مصر مع المحور لا يعني إلا احتلالاً جديدًا، بينما اعتبر دخولها الحرب إلى جانب بريطانيا خطوة في طريق الاستقلال السياسي والعسكري، وأن الحرب ستُنهِك القوى الاستعمارية التقليدية: إنجلترا وفرنسا، وهو ما حدث فعلاً. لكن بدوي، على النقيض، وباعتباره قياديًا في حزب مصر الفتاة، رأى ضرورة دعم ألمانيا في حربها ضد إنجلترا، وأن مصير مصر هو التعاون مع الرايخ الثالث، وأن الاستقلال السياسي والعسكري لن يتحقق بمعاداة المحور. وقد استفاد نجيب على حد قوله من خبرات الجستابو الألمان بعد الحرب في بناء المخابرات المصرية، بينما استفاد بدوي من خبرات الفلاسفة الوجوديين الألمان في تأسيس رؤيته الوجودية، ومشروعه للتحديث والنهضة. كان نجيب مهندس ثورة يوليو وقائدها، أو أحد قادتها على الأقل، وكان بدوي صاحب رؤية شاملة نظرية. رأى نجيب أن التربية العسكرية للنشء-وهو مشروع اعتمده مجلس قيادة الثورة بعد ذلك-هو طريق التحديث، وأن ارتباط الجيش بالسياسة في الدول النامية ضروري، وأن عسكرة المجتمع جزئيًا حاجة لا غنى عنها في تلك المراحل المحورية في مجتمعات العالم الثالث، بينما رأى بدوي أن العقيدة الوطنية المتطرفة والروح الوجودية النازعة للتفوق الحضاري هي مشروع الحداثة، وأن الجيش لا دور له إلا في وقت الحرب، لدرجة الاستشهاد برأي الفيلسوف هيجل الذي رأى إمكانية تسريح الجيوش في غير أوقات الحروب. رحل نجيب عن الحياة السياسية قسرًا، واختفى إلى أن فوجئ الناس بوفاته، بينما اعترف أنور السادات بعد حرب 1973 أنه ما كان ليحقق هذا الانتصار لولا قراءة كتاب (نيتشه) لبدوي، على حد قول بدوي. لكن عسكرة الحياة السياسية استمرت بعد نجيب، وماتت الوجودية أو كادت من مصر بعد بدوي، ولم تتحدَّث مصر، ولم تتقدم، ولم تنل الاستقلال الحقيقي. انتصر مشروع اللواء برغم فشله، ولم يتحقق مشروع الفيلسوف، لكنه لم ينتهِ.