إن الطريقة التي تعامل بها المشتغلون بحقل الدراسات الفكرية والفلسفية في المجال العربي, مع المذاهب والتيارات الفلسفية المعاصرة, استوقفت انتباه الكثيرين. وجرت حول هذه الظاهرة نقاشات غلب عليها الطابع النقدي, إذ كشفت بوضوح كبير عن حالة التبعية, والاحتماء بهذه المذاهب والتيارات, وحتي الاستقواء بها. ولعل في تصور من سلك هذا السبيل, أن الطريق إلي الحداثة, والانتماء إلي العصر, والخروج من أسر الماضي, لا يمر حصرا إلا عن طريق الارتباط بهذه المذاهب والتيارات, والالتحاق بها, والاندماج فيها, والتحدث باسمها, وطلب الرضا والقبول منها. لهذا لم يخف هؤلاء حقيقة ارتباطهم بهذه المذاهب والتيارات, ولم يتستروا عليها, ويتظاهروا بخلافها, ولم يكن يزعجهم أو يضايقهم من يتحدث عن علاقتهم بهذه المذاهب والتيارات, بقدر ما كان هذا الأمر يسرهم ويغبطهم, أو يسر العديد منهم علي الأقل الذين يرغبون في التظاهر بهذه العلاقة, واعتراف الآخرين بها, وحديثهم عنها. ومن الذين استحسنوا هذا الموقف, الباحث المغربي الدكتور سالم يفوت, إذ وجد فيه تعبيرا عن استيعاب الدرس الفلسفي الغربي وتمثله في ساحة الفلسفة العربية المعاصرة, بما يحقق لها شرط استئناف التراكم الذي لا بد منه في نظره, لإنجاز التطور الفلسفي المطلوب. وأشار الدكتور يفوت لهذا الموقف, في كتابه( المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر), بقوله: وتاريخنا الحديث زاخر بالمحاولات الهادفة إلي تمثل الدرس الفلسفي الغربي, انطلاقا من نزعة شبلي شميل التطورية الداروينية, ثم وجودية عبد الرحمن بدوي, فوضعية زكي نجيب محمود, وشخصانية رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي, وأرسطية يوسف كرم, وجوانية عثمان أمين, وديكارتية كمال يوسف الحاج.. حتي النزعات المعاصرة التي تنهل من الماركسية أو غيرها من الصيغ الفلسفية الأخري, التي تحتل الساحة الفكرية الراهنة. ومن الذين ناقشوا هذا الموقف ناقدين له, الدكتور محمد وقيدي أستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس المغربية, في دراسة له بعنوان( مقدمات لاستئناف القول الفلسفي في الفكر العربي المعاصر), نشرت في مجلة عالم الفكر الكويتية, المجلد30, سنة2002 م, وحسب رأي الدكتور وقيدي أن المحاولات الفلسفية العربية غلبت علي كثير منها, الرغبة في الانتماء إلي أحد التيارات الفلسفية الكبري المعاصرة, لدرجة أن المتفلسفين العرب لم يتركوا للمحلل فرصة متابعة تفكيرهم, وتحليله للوصول إلي تصنيفهم ضمن إحدي المسميات الفلسفية الكبري أو خارجها ضمن تسمية جديدة, بل نراهم يتسارعون في الانتساب إلي ما هو قائم من تسميات مثل الوجودية والشخصانية والوضعية والعقلانية وغير ذلك. وهذا الموقف في نظر الدكتور وقيدي, هو ما جعل المتفلسف العربي يظهر بمظهر من يختبئ وراء أسماء أخري من أجل صياغة أفكاره الفلسفية, وكأنه بهذه الصفة يفكر في اسم مستعار, ولا يكون قادرا علي القول بصيغة أنا أفكر, التي قامت الفلسفة بفضلها وتطورت في إطارها. ومن جانب آخر, تساءل الدكتور وقيدي في إطار مناقشته الناقدة, هل استطاع الوجودي أو الشخصاني أو العقلاني العربي, أن يفرض ذاته داخل هذه التيارات الفلسفية ذاتها, وأن تكون له مساهمة في تطويرها؟ وهل يمكن إذا ما أرخنا لهذه المذاهب في عصرنا, أن نذكر أسماء عربية كانت لها إضافة بالنسبة لهذه المذاهب, لا نستطيع التجاوز عنها! وجهة النظر هذه للدكتور وقيدي معقولة, وتساؤلاته محقة, ويمكن أن نضيف إليها تساؤلات أخري, من قبيل: هل وجدنا أحدا من أصحاب هذه المذاهب الفلسفية من الأوروبيين يعترف أو يلتفت أو ينبه لأثر من آثار أحد المفكرين العرب, ودوره وتأثيره في تطور هذه المذاهب وتراكمها وتجددها, أو لأي شكل من أشكال الأثر والتأثير! وهل هناك أحد من المفكرين العرب, لديه الثقة والجرأة في القول إنه ترك أثرا في تحريك أو تطوير أو تجديد داخل هذه المذاهب الفلسفية في مراكزها وليس في أطرافها, وفي منبتها الأصلي, وليس في امتدادها العربي! أجل كان هناك عبد الرحمن بدوي, الذي كانت لديه الثقة والجرأة في أن يقول عن نفسه إنه مثل محطة بارزة في تطور مذهب الوجودية بعد فيلسوفها الألماني مارتن هايدغر, وإنه جاء يكمل مشروع هذا الأخير, ولم يكن يعترف بالمفكر الوجودي الفرنسي سارتر, وكان يقول عنه إنه أديب وليس فيلسوفا, ولم يعتبره أبدا فيلسوفا وجوديا, ويري أنه ضئيل القيمة من الناحية الفلسفية, وشرح هذا الرأي في كتابه( دراسات في الفلسفة الوجودية) الصادر سنة1962 م. ولكن هل كان المفكرون الأوروبيون الوجوديون, يعترفون بهذا الدور أو بهذا الأثر للدكتور بدوي. إن أكثر ما يصوب النظر علي هذا الموقف, ما حصل من مراجعات عند شريحة بارزة من المفكرين العرب, دفعت بهم نحو التخلي والانسحاب, أو تغيير الموقف تجاه هذه المذاهب الفلسفية, وهذا ما حصل مع رائد الوضعية المنطقية في المجال العربي الدكتور زكي نجيب محمود, وحصل أيضا مع رائد الوجودية العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي, إلي جانب شريحة بارزة من المفكرين والمثقفين التي خرجت وانقلبت علي مذهب الماركسية. وفي ظل هذه الموجة من المراجعات, لم يعد المفكرون العرب يتظاهرون كما كانوا في السابق بارتباطهم وانتمائهم لهذه المذاهب الفلسفية لمزيد من مقالات د. زكى الميلاد