إنَّ كثيرًا من تصوراتنا عما يحدث في مجتمعنا العربي من متغيرات، ربما كان حادثًا عن توهم ، فمن جانب لا تفصح الأحداث التي نعاينها إلا عن قدرٍ يسيرٍ من حقيقتها، فهي في الغالب تبدو غائمة ومخاصمة للمنطق؛ رغم ما تحظى به من رواج سريع عبر الوسائط، ومن جانب آخر يبدو أنَّنا لم تعد لدينا الرغبة في تلمس الأسباب والدوافع التي تكمن خلف هذه المعاينات، وانعدام الرغبة هذا لابد أن يسلمنا للتسطيح، وقبول ما يقع بوصفه نازلةً تُعزى إلى غيبة القيم. فإذا سلمنا جدلا بصحة هذا الإعزاء؛ فليس ثمة مهرب ٌمن أن نبذل المحاولة تلو الأخرى؛ لتكون هذه القيم قيد الاستدعاء. تدل القيم حسب التعريف على معنى ما هو ثمين أو جدير بالثقة وتقدير قيمته وتكون الفلسفة المتصلة به فلسفة قيم أو نظرية قيم. ومن معاني القيمة الدوام والثبات والاستقامة والكمال، يقول تعالى: (وذلِكَ دِينُ القَيِّمة) وقوله تعالى: (فيها كُتبٌ قَيِّمة) أي مستقيمة تبين الحق من الباطل على استواءٍ وبرهان. وتبعًا لاستخدامات لفظ القيمة في ميادينَ متعددةٍ، مثل علم النفس والاقتصاد والمنطق والفن والأخلاق، يتحول معنى القيمة من دلالةٍ مشخَّصةٍ يوميةٍ إلى دلالات شتى مجردة ومعنوية. إنَّ الدلالة الأولية لكلمة قيمة تتجلى فيما يدل على صفة ما يقدِّره إنسان ما تقديرًاً يزيد أو ينقص (قيمة ذاتية) أو يدل على ما يستحق هذا التقدير على نحو يزيد أو ينقص (قيمة موضوعية). إنَّ القيم لا يمكن أن تكون حادثة أو ناتجة عن تأزُّمات الواقع ؛ ولذلك فهي لا تجعل المنفعة المباشرة أساسًا للتقويم، ويرى إرنست لوسين أنَّ القيم كلها تصدر عن الفكر أو الروح صدور الأشعة عن بؤرة تبدع الحرارة والنور، وقد وجد أنَّ مصادر القيم الإشعاعية أربع هي: قيمة التحديد الطبيعي أي الحقيقة. وهي قيمة تتميز بها التحديدات المعطاة على أنَّها تسبق الفعل. وتتميز من التحديدات الخاطئة أو الموهومة أو الخيالية، أي من التحديدات الذاتية فقط. وأساس الحقيقة أنَّها قيمة المعرفة، وهي الأساس الاجتماعي الأعلى، و قيمة التحديد الصميمي أي الجمال، وهي قيمة ترى أنَّ الطبيعة قوام التحديدات المعطاة، وقيمة التحديد المثالي أي الأخلاق: فالقيمة الأخلاقية قيمة الشرع، وهي القيمة التي تصبح عند تحققها في الواقع فضيلة. وتعرَّف أنَّها ما ينبغي فعله، والقيمة الأخلاقية هي قيمة العمل، وهي قيمة الإرادة، كما أن الحقيقة قيمة المعرفة، والجمال قيمة التخيل، والحب قيمة الحب نفسه، وهو قيمة الطاقة الروحية الكامنة في الحب أو الدين وتتناول ما يجب أن يكون، وترجع إلى الطاقة النفسية ذاتها، وتجعل هذه الطاقة روحية بدلا من أن تظل طاقة ذهنية، ومن مهمتها خلق العواطف واتحاد القلوب فيما يجاوز أي عمل من الأعمال، وهذه القيمة – قيمة الحب و قيمة الدين- هي أكثر القيم اتصافاً بالصفة الصحيحة. إنها – كالفضيلة – تتطلع إلى المستقبل، ولكنها لا تستهدف تناول الموضوع، بل إنجابه، بمعنى أن الإنجاب هو إيقاظ الروح. وما يتصل بمفهوم القيمة أو يقرب منه ويشاكله مفهوم المعيار، وهو القدرة على تقدير شيء ما وفق مجموعة من المقاييس الخاصة تتوفر على الشمولية بقدر الإمكان، وكلما تعددت المعايير وتنوعت، كلما كان تقديرنا أقرب إلى الصواب. والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا العرض، هل كان لدينا ثمة شك أنَّ تقلص الحقائق وانزوائها على الدوام في مجتمعنا العربي كان يعني دومًا حضورًا طاغيًا للوهم الذي لا يمكن أن يكوِّن واقعًا مقبولا لقيم تستطيع أن تؤسس لمجتمع يجهد للحفاظ على كيانه المحاط بكل أسباب السقوط؟وكيف استطعنا اصطناع الدهشة عندما اخترنا – بمحض إرادتنا – أن نفسح المجال لكل هذا القبح ؛ ليصبح سيد الموقف ؛ متسائلين:أين اختفت قيم الجمال؟! ونحن وقد ساءنا أيما إساءة ما يعانيه مجتمعنا من تردٍ هائل في الأخلاق كنا قد أفلتنا كل فضيلة أمكننا الإمساك بها فيما مضى كون تحققها لا تتوفر شروطه في غيبة العمل الجاد والمناسب لكل فرد من أفراد المجتمع، بعد أن انتشرت الوساطة وتقديم أهل الثقة على أصحاب الكفاءة في شتى مناحي حياتنا؛ حتى أصبح توريث المناصب أمرًا لا يثير تساؤل أحد ناهيك عن استنكاره. والحقيقة أنه لا يوجد على وجه البسيطة مجتمع يستطيع أن يحافظ على منظومته القيمية بمعزل عن أفق مفتوح لأفراده، يمكنهم من خلاله تحقيق ما يصبون إليه من طموحات ؛ فهذا الأفق هو ما يتيح حرية الخيال التي من شأنها أن ترشِّد من مآسي الواقع، وبالقطع فإنَّ المجتمعات التي تعاني من انسداد الأفق؛ تتقزم قدرة أفرادها على الإبداع، وتخبو داخل أرواحهم قدرة الخيال، فلا سبيل لديهم إلا الاشتباك الخشن مع المجتمع؛ فينتج ما نراه من أمورٍ كارثية! لابد إذن من مواجهة حقيقية لكل من جعل واقعنا خلوًا من تلك القيم ؛ فغرسها مُجددًا لا يتأتَّى إلا بتقليب تربة حياتنا جيدًا؛ لترى مكوناتها البائسة ضوء الشمس من جديد.