سيطر تنظيم «داعش» يوم الثلاثاء الماضي على أجزاء واسعة من محافظة نينوى، بما في ذلك عاصمة المحافظة مدينة الموصل، واستولى على البنوك والمؤسسات الحكومية الأخرى بما في ذلك مطار الموصل، وقبل ذلك تمكن تنظيم «داعش» من مهاجمة مدينة سامراء، ولكن الجيش العراقي تمكن من طرده منها. وأعقب ذلك بشن هجوم في الأنبار فاستولى على الجامعة واحتجز عدداً من مدرّسيها. حقق «داعش» هذه المكاسب في حين كان يخوض القتال على ثلاث جبهات، جبهة القتال مع الجيش العراقي في أنحاء مختلفة من العراق، بخاصة في المحافظاتالغربية والشمالية، وجبهة القتال ضدّ الجيش العربي السوري عند عدد من الجبهات، وجبهة القتال ضدّ «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» في المحافظاتالشرقية من سورية. من أين جاءت هذه القوة كلّها لتنظيم «داعش» كي يقوم بذلك كلّه، ويحشد هذا العدد الكبير من المقاتلين لخوض صراع على ثلاث جبهات في آن واحد، ويحقق تلك النجاحات في مواجهة الجيش العراقي، وفي مواجهة «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» في سورية؟ تنظيما «القاعدة»، و«داعش» بين تلك التنظيمات التي نشأت وترعرعت في أحضان الاستخبارات الغربية، وبخاصة الأميركية، وكانت تؤدي دوماً دوراً وظيفياً يخدم المصالح الغربية، فهي تستخدم فزاعة لتبرير تدخل عسكري خارجي في أي بلد يعتمد سياسة مستقلة، وتعتمد عليها الاستخبارات الغربية لمحاربة أنظمة لا تدور في الفلك الغربي. كان ذلك دور تنظيمات «القاعدة» في أفغانستان وسورية والعراق. ومن كان يحاربه الغرب في هذه التنظيمات ليس الهيكل الرئيسي أو قيادات تنظيم «القاعدة»، بل المجموعات التي اضطرت الدول الغربية إلى تجنيدها باسم «القاعدة» وتحت شعاراتها، لكنّها ليست على بيّنة من الارتباط بالغرب، فعادة ما تستهدف جماعات متفرعة المصالح الغربية، مدفوعة بالتعبئة التي تلقتها ضدّ الغرب في معسكرات القاعدة. ويمكن القول كلّما اتسعت قاعدة هذه التنظيمات كان خروجها على السيطرة الغربية والدول المشغّلة في المنطقة أوسع وأقوى. تنظيم «داعش» واحد من تنظيمات «القاعدة»، يسيطر عليه العراقيون، وهو من تفرّعات «القاعدة» التي خرجت على نطاق السيطرة الغربية واستخبارات المنطقة وجاء هذا الخروج عن السيطرة تحت تأثير عاملين أساسيين: العامل الأول، ما آل إليه حكم العراق بعد الانسحاب الأميركي، إذ أدى دستور «بريمر» إلى تقاسم مذهبي وعرقي لمناصب السلطة الرفيعة في العراق، وبموجب هذا التقاسم احتلت جماعات عراقية مرتبة متقدمة، وخسرت جماعات أخرى مواقع ودوراً استأثرت به قروناً طويلة، وولد ذلك رد فعل في مناطق معينة من العراق، لا سيما المحافظاتالغربية والشمالية، قاد إلى التفاف قوى وفئات واسعة حول تنظيم «داعش». وبين هذه القوى جماعات قاتلت الاحتلال الأميركي، وجماعات أخرى مثل «هيئة العلماء المسلمين» التي يترأسها حارث الضاري، واستقطب «داعش» ألوف المقاتلين المناهضين للأميركيين والساخطين على صيغ الحكم الراهنة في العراق. انضمام ألوف المقاتلين إلى صفوف «داعش» أخلّ بالتوازن لمصلحة الخارجين على السيطرة الغربية وسيطرة استخبارات المنطقة عليها، وبات المحرك الأساسي في هذا التنظيم المصالح والتطلعات التي تعبّر عنها فئات واسعة في المحافظاتالغربية والشمالية في العراق وليس الإيديولوجية التكفيرية التي يتبناها «داعش»، ولذلك هاجمت «داعش» تنظيم «القاعدة» الأصلي ممثلاً بأيمن الظواهري واتهمته بالتواطؤ مع الدول الغربية وحكومات المنطقة التي تدور في فلكها، ولهذا السبب أيضاً شنّت الحكومات الغربية وحكومات المنطقة هجوماً عنيفاً على «داعش»، في حين لم تظهر العداء ذاته ضد تنظيم «القاعدة» الأصلي وضد «جبهة النصرة» وحركة «أحرار الشام» في سورية المرتبطين بتنظيم «القاعدة» العالمي. هذا الواقع الجديد أخرج «داعش» من كونها استطالة استخبارية غربية تؤدي دوراً وظيفياً لخدمة المصالح والمخططات الغربية، وصولاً إلى تنظيم يقود تمرداً شعبياً في العراق، ويهدد بطروحاته المتزمتة والتكفيرية وحدة العراق، ويتعدى خطره العراق إلى المنطقة كلّها، لما يتمتع به من دعم شعبي واسع في مناطق معينة من العراق، ولما آلت إليه من قدرات وإمكانات في ضوء سيطرته على موارد واسعة في المحافظاتالغربية والشمالية من العراق، والمناطق الشرقية في سوريا.