إن ما يحدث فى مصر الآن ليس مجرد مواجهة بين الدولة وتيار متطرف لا يريد لها خيرا، و لا يريد لها الحياة من الأساس، بل هى حرب حامية الوطيس بين الحياة والعدم .. بين الأمل والإحباط، وقد بدأت إرهاصات هذه الحرب منذ وقت طويل مضى، وبإمعان النظر فى ظهور بذرة التطرف الدينى فى مصر الحديثة والمعاصرة سندرك ذلك . فى خضم ثورة 1919 ذابت كل الاختلافات والخلافات وتوحد المصريون جميعا تحت راية الوطنية المصرية، وحين دوى فى الآفاق هتاف الثوار "يحيا الهلال مع الصليب " أدرك المحتل أن هذا الهتاف يهدد استمرار تواجده على أرض المحروسة، خاصة وأنه قد سعى بشتى الطرق لإشعال جذوة الفتنة الطائفية، لكنه فشل فشلا ذريعا لعدة أسباب أهمها تكوين الشخصية المصرية المتسامحة والمتقبلة دائما للآخر المختلف فى التكوين والتفكير والاعتقاد، فكان سعى المحتل للفت فى عضد هذه اللحمة الوطنية، و لم يكن من قبيل المصادفة أن يخرج إلى الوجود بعد ذلك من ينكر هذه الوحدة بين الهلال والصليب بل ويصل به التطرف إلى حد تكفير من هتفوا بها ؟! فكان ظهور السلفية الوهابية فى مصر على يد محمد حامد الفقى وتأسيس "جماعة أنصار السنة المحمدية " عام 1926، وليس من قبيل المصادفة أيضا أن يتزامن ذلك مع بداية تكوين الدولة السعودية الوهابية الثانية التى قامت على أنقاض الدولة الأولى التى قوض الجيش المصرى دعائمها حين هدم "الدرعية " مقر حكمهم ودعوتهم إبان حكم محمد على لمصر، ولا يخفى على قارئ للتاريخ وباحث فيه ما كان لبريطانيا الاستعمارية من عظيم الدور فى انتشار هذه الدعوة وفى بناء هذه الدولة، وذلك فى إطار حرب القوى الاستعمارية الغربية للدولة العثمانية وسعيها للسيطرة على ممتلكاتها فى الشرق، وهذا ما نجحت فيه فيما بعد عندما أبرمت اتفاقية "سايكس بيكو " التى فضحت وجه الاستعمار القبيح، إذ كانت الإرهاصة لما تلاها من جرائم فى حق العروبة تجلت عند اصدار "تصريح بالفور 1917 " ثم إعلان الحماية البريطانية على فلسطين تواترا مع الحرب العظمى الأولى ،وتسليمها بعد ذلك للصهاينة . ولم تكد تمر عدة سنوات حتى خرجت إلى الوجود الجماعة الأكثر جدلا – وإرهابا – فى تاريخ مصر الحديث وهى جماعة الإخوان، والتى كانت تقف بالمرصاد أمام كافة مساعى التحرر الوطنى، ولم يكن التدشين لفكرة إعادة الخلافة بعدما سقطت الدولة العثمانية – المسماه كذبا وتدليسا بالخلافة – إلا واحدا من أساليب التدليس والمتاجرة التى برعت الجماعة فى استخدامها، والرجوع للملابسات التى ظهرت فيها هذه الجماعة والدعم الذى تلقته من السفارة البريطانية، يجعلنا نعيد النظر فى الأحداث التى شهدتها مصر منذ عشرينيات القرن الماضى وحتى اليوم، فهذا التيار الذى زُرع فى أرضنا فى ظل ملابسات مريبة وبأيد غير وطنية لن يدخر وسعا فى الكيد لمصر، لكن هيهات.. فمصر ستبنى مستقبلا زاخرا رغم حقد الحاقدين، مستقبلا يليق بها وبدماء شهدائها الذين رووا ترابها عبر تاريخها الطويل .