ظل المصرى مبعداً عن دائرة صنع القرار فى بلاده لسنوات طويلة تمتد لما قبل الفتح الإسلامي بكثير، ولم يتغير حاله كثيراً كمجرد محكوم فى ظل دويلات ودول متعاقبة، حتى كانت نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الذى شهد مقدم المحتل الفرنسى، والذى يعد ظهوره على ساحة الأحداث بداية التأريخ لمصر الحديثة والمعاصرة . صدم المصريون بشكل كبير حين شهدوا انكسار الأمراء المماليك بملابسهم المزركشة وخيولهم المطهمة وسيوفهم اللامعة، أمام مدفع المحتل وبندقيته، وتبينوا أن عصرًا جديدًا حديثًا يخلق بعيدًا عنهم ، وأن علمًا يحرك كل هذا وأنهم ظلوا بعيدين عن مقدراته لأسباب عدة يخرج كثيرها عن حدود مسئوليتهم، لكنهم مسئولون عن تركهم لمقدراتهم فى أيد غريبة عنهم لا يهمها سوى جمع الخراج وجباية الضرائب، وهنا أدرك المصرى ألا سبيل أمامه سوى حمل السلاح والدفاع عن وجوده، ومنذ ذلك التاريخ بدأت حلقات من الصراع الشديد بين الشرق الغنى بثرواته وتاريخه وثقافته وبين الغرب الذى يسعى بدأب لاحتلال الشرق وسلب ثرواته وسحق إرادته وطمس هويته، طمعًا فى كنوزه ورغبة فى الثأر التاريخى لسنوات كانت راية العرب ترفرف على بلاد الأندلس و ربوع من أوروبا، حتى لقد توغل العرب المسلمون فى الأراضي الفرنسية حتى توقف مسيرهم نهائيًا بعد هزيمتهم فى موقعة بواتييه عام732 م. والتى تعرف أيضاً بموقعة "بلاط الشهداء " وبعد ذلك توغل العثمانيون شرقاً وسيطروا على بلاد البلقان ودول شرق أوروبا . فى بداية القرن التاسع عشر كانت أوروبا تشهد خلخلةً فى ترتيب قواها العسكرية والسياسية وكانت الحرب بين الروس والدولة العثمانية تشتد حيناً وتخفت أحياناً، لكن التقت رغبة الجميع على تفتيت واقتسام تركة السلطان العثمانى، وعمدت الدول الأوروبية الى دعم ومساعدة العديد من الولايات التابعة للأستانة فى الانفصال عن حكم العثمانيين، وتجلى ذلك فى الدعم الغربى الكامل لليونان فى حربها وانفصالها عن الآستانة، وفى هذه الحرب ( حرب المورة 1821- 1829م . ) بزغ نجم قوة وليدة هى مصر، أعلنت عن نفسها بشدة من خلال أسطولها الذى كان يطاول أسطول السلطان نفسه فى قوته، ولقد لفتت الانتصارات التى أحرزها الجيش المصرى انتباه ساسة أوروبا وجعلتهم يسعون بدأب للسيطرة على جموح هذه القوة ومحاولة توجيهها بما يخدم مصالح الغرب. فى هذا الوقت كان يحكم مصر ضابط ألبانى مغامر حضر قبل سنوات من ضمن القوات التركية التى جاءت لحرب الفرنسيين، هو محمد على، لكنه منذ وطأ تراب مصر قرر أن يمكث بها وأن يكون له بها شأن، وبعد حيل عدة وتداخلات مع رجالات مصر وشيوخها ارتقى سدة الحكم وجلس فوق أريكة القلعة عام 1805م. بموجب إرادة شعبية عارمة أجبرت السلطان العثمانى على خلع والٍ سابق وتولية محمد على الذى أقسم على أن يراعى العدل والصواب فى حكمه للبلاد، لكنه بعد ذلك استطاع أن يقضى على الزعامات الشعبية – مستغلاً طمع بعضهم وقصر نظر البعض الآخر – وخلص له الأمر، وبحكم درايته بكيفية تفكير المصريين ونظراً لطبيعته التجارية استطاع أن يقيم دولة قوية سعى فى سبيل نقلها من زمرة الولايات التابعة للأستانة إلى معسكر الدول القوية – للاستفادة قدر المستطاع منها حتى يضمن له ولأبنائه من بعده ملكاً لا يزول – لكنه ظل محافظاً على نفس نهج من سبقوه والذى تبدى فى إبعاد المصرى عن دائرة الضوء وحصر دوره فقط كترس فى عجلته كفلاح وصانع، وظل معتمداً على الفرق التركية المختلفة فى تكوين جيشه. تعد حرب الحجاز ( 1811 – 1818م. ) التى خاضها محمد على ضد الوهابيين إذعاناً لأوامر السلطان العثمانى نقلة نوعية مهمة فيما يخص تواجد المصرى فى جيش بلاده، خاصة مع حجم الانتصارات التى حققها المصريون والتى تجلت فى هدم "الدرعية" معقل الوهابيين وأيضاً أسر الأمير عبد الله بن سعود وإحضاره إلى مصر ثم إرساله للآستانة حيث أعدم هناك – وربما هذا يفسر بعضاً من التربص التاريخى الذى يمارسه آل سعود وسعيهم لإجهاض الكثير من مساعى النهضة المصرية منذ يوليو 1952 وصولاً لثورة يناير 2011 – ويرجع الفضل الكبير فى ضم المصريين لجيش بلادهم إلى إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد على والذى كان مصرى الهوى عربى التوجه، إذ جاء مصر وهو بعد لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، فشب على أرضها وجاب قراها وكفورها حين قام بحصر مساحة الأرض الزراعية وعمل تقسيم إداري جديد لها يتماشى مع سعى محمد على للاستفادة القصوى من كل شبر وجمع كل قرش . وكما كانت حرب المورة نذيراً لدول أوروبا جعلتهم ينتبهون لمصر وقوتها وجعلتهم يسعون لاستقطابها حيناً ثم يتآمرون لحصارها وتقويضها أحياناً كثيرة، ولقد تبدى ذلك فى التدخل السافر المنحاز من قبل الحلفاء الأوروبيين فى الحرب التى دارت بعد ذلك بين مصر والآستانة،فلم تنس الآستانة مطلقاً أن المصريين أجبروا السلطان على خلع الوالى خورشيد بموجب وثيقة شرعية فريدة و نادرة فى تاريخ الشرق – فيها أكد العلماء على أن الحاكم الظالم لا تجوز طاعته وأنه بظلمه وتعسفه وتجبره يخرج من ربقة الملة ولا تجوز ولايته – وفرض محمد على والمناداة به حاكماً لمصر، ولهذا كان هناك تربص شديد وسعى لإجهاض قوة مصر واستنزاف ثرواتها ومن هذا المنطلق كان توريطها فى حرب المورة التى فقدت فيها أسطولها كاملاً ومن قبله حرب الحجاز، وحين أراد محمد على المطالبة بتعويض عن هذا نشب الصراع مما أدى لحرب استمرت لسنوات طويلة أحرز فيها الجيش المصرى انتصارات رائعة واستطاع ابراهيم باشا – أبو المدفعية – فتح عكا عام1832 موهى المدينة التى عجز عن فتحها نابليون بونابرت و كسرت تحت أسوارها أسطورته. ما كانت أوروبا لتترك قوة كقوة مصر تنشأ فى الشرق لتهدد مصالحها وتعيد الى الشرق مجده التليد لهذا كان التحرك لإجهاض مصر وتقويضها وتكبيدها الخسائر، حاصرت أساطيل الحلفاء الأوروبيين ساحل الإسكندرية وقصفت المدينة بالمدافع، كما شنت الهجمات الشديدة على الخطوط الخلفية للجيش المصرى فى الشام، واستطاع الحلفاء – أعداء الآستانة بالأمس أصدقاء اليوم – جعل محمد على يقبل بمعاهدة لندن – لندرة – 1840م . والتى أبرمتها روسيا والنمسا وبروسيا وانجلترا وتركيا والتى بموجبها تنتهى حربه مع الآستانة ويكون حكم مصر وراثياً فى أسرته، لكن إبراهيم باشا لم يكن موافقاً على ذلك إذ كان يطمح لتكوين كيان قوى يعيد به الشباب لجسد السلطنة المتهرئ ، كما كان يسعى لبناء دولة عربية قوية تقف فى وجه أوروبا الاستعمارية، فسقط صريع المرض ومات مقهوراً بعد ذلك بسنوات قليلة. وبالطبع لا يجب أن نغفل السياق التاريخى والاجتماعى الذى كان يلف هذه المرحلة، فمصر كانت ولاية تابعة للخلافة وكان السلطان – ولى الأمر – يعين واليها وقاضى قضاتها – وهما من الأتراك – ولم يكن من هدف للكثير من ولاتها سوى جمع المال وإرساله لخزائن السلطان، وجعلتها هذه التبعية تتراجع خطوات كثيرة عن غيرها من البلدان التى تتواضع مقدراتها أمام ثروات مصر، وعلى الرغم من شخصية محمد على الشره لجمع المال المحب دوماً لسفك الدماء الذى لم يكن مؤمناً بشكل كبير بقدرات المصريين حيث حصرهم فى زاوية بعينها وضعهم فيها ولم يسمح لهم بتجاوزها، إلا انه قام بعمل إجراء كان له عظيم الأثر فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر ألا وهو إرساله البعثات العلمية إلى أوروبا. ولكى نكون منصفين فهناك العديد من الشواهد التى تدلل على أنه ما قام بعمل ذلك إلا لكى تتوفر له كتيبة من الموظفين المتعلمين المؤهلين للقيام بأدوار أعدها هو لهم سلفاً – حتى أنهم كانوا جميعاً يعينون برتب عسكرية فور عودتهم، وهو بهذا قام بعمل تجربة فريدة فى عسكرة المدنيين! - لكن على الرغم من هذا كله فإن هذه التجربة مهدت لنشوء طبقة متعلمة مثقفة شكلت بذرة الطبقة الوسطى المصرية التى كان لها عظيم الأثر فى بناء مصر الحديثة والتى ظلت تنمو بشكل ملحوظ خاصة مع دورها فى حركة التعليم والترجمة وتمصير القوانين ونقل تجارب المجالس النيابية، وأخرجت مجموعة من المفكرين والأدباء والأطباء والمهندسين المهرة. وعلى الجانب الآخر استطاع المصرى أن يترقى فى جيش بلاده، وأن يحصل على رتب عليا وأن يتساوى مع الأتراك حتى أصبح الفلاح المصرى أحمد عرابى وزيراً للحربية وقائداً فى حرب بلاده ضد التدخل البريطانى الذى أسفر عن احتلال مصر عام 1882 م. بعد ملابسات وخيانات عدة. وقبل ذلك بقليل كانت هناك إرهاصات لنشوء حركة وطنية ثورية تسعى لتمصير الحياة الرسمية فى مصر والتى تبلورت بعد ذلك فى عرابى ورفاقه ثم بدأت التيارات السياسية تنمو وتكبر تحت راية الجهاد ضد المحتل وعملائه وأذنابه. ولقد كان تصدى الضباط المصريين للحركة الوطنية ومطالبتهم بتحسين الأوضاع أمراً مقبولاً حينئذ ًحيث لم يكن هناك ثمة تيار مدنى بشكله الذى عُرف بعد ذل ، وكان المجتمع مازال يحمل آثاراً من نسق القرون الوسطى فى علاقة الحاكم بالمحكوم، لكن فى مجموعة عرابى كانت هناك رموزاً وطنية مدنية لعل أبرزها هو الشيخ الإمام" محمد عبده "- الذى كان متوجساً من توريط العسكر فى النزاع وفيما بعد تحقق صدق رؤيته - والشاعر الثائر"عبد الله النديم " الذى لُقب بخطيب الثورة، ولقد كان خروج مصطفى كامل بحركته السياسية الوطنية المعروفة تدشيناً لبداية تكوين نشاط حزبى حقيقى فى مصر وتبعه تيار "حزب الأمة " الذى خرج بمباركة المندوب السامى البريطانى،ثم توالت الأحزاب والتكتلات التى يصب كثيرها فى مجرى الوطنية والكفاح الوطنى بينما ينحى بعضها نحو دار المندوب السامى والسراى. ونشأ تيار ليبرالى سمح بتلاقح الأفكار والرؤى واشتدت الرغبة فى التعلم والوقوف على أسباب التقدم لدى أبناء الطبقة الوسطى المصرية، واستطاع بعضهم السفر للتعلم فى أوروبا وبدا التمهيد لتأسيس مرحلة من أبرز مراحل مصر الفكرية فى تاريخها الحديث. وكانت ثورة 1919 أبرز ما أكد على دور هذا التيار فى حشد الجماهير وفى نشر الوعى، ثم تكون حزب "الوفد " بزعامة سعد زغلول كمعبر عن إرادة شعبية وطنية لكن للأسف الشديد تم سرقة الثورة والحزب من قبل الإقطاع والرأسمالية فيما بعد وتحول الكيان الوطنى الثورى إلى مجرد كيان سياسى يسعى للسلطة والتحالف حتى مع المحتل فى سبيل ذلك. ولم يكن الجيش المصرى ببعيد عن هذا كله ورغم تسريح معظم قادته ونفى بعضهم بعد الاحتلال إلا أن بذرة الوطنية ظلت كامنة فى تربته حتى جاء أوان نموها والذى بدأ بعد معاهدة 1936 حيث سمح لأبناء الشعب العاديين بدخول الجيش - الذى كان وقفاً على أبناء الطبقة العليا وأبناء الأتراك المتمصرين - والذى أدى فيما بعد بسنوات قليلة إلى نشوء حلقة جديدة من حلقات الصراع بين غرب استعماري وشرقٌ مُستعمرٌ، حدث ذلك حين خرج من بين هؤلاء الذين ينتمون للطبقة الشعبية من أنهى حكم أسرة محمد على وتم نقل مصر إلى موضع آخر فى حلبة الصراع. Comment *