التقت عيناهما ولوهلة شعر وكأن الزمان قد توقف وكأن الحياة كلها تصرخ لتناجيه بأنها هى من تداعب أحلامه دومًا، لم يلبثا أن تعارفا عن طريق أحد الأصدقاء وقد بذل جهدًا خرافيًا ليتمالك نفسه أمام سحر عينيها وصوتها الرقيق لكى لا يصرخ بمكنون قلبه الذى أخذ يرقص طربًا مع الكلمات الأولى التى خرجت من بين شفتيها لتطرق باب فؤاده طرقًا تهدمت معه ما تبقى لديه من دفاعات، ليخر على الأرض متكئًا على ركبتيه طالبًا منها الزواج ليكاد قلبه يتوقف مع اللحظات التى تلت سؤاله قبل أن يأتيه الرد بالموافقة وعلى ثغرها ابتسامة متألقة تخبره بأن القادم لابد وأنه أفضل، موقف لا ينسى لكل من حضره وكأنها لحظات انشقت من قلب قصة خرافية لتتمثل أمام الأنظار. والآن لنتوقف قليلًا ولنتخيل منحنى آخر، ففى تلك اللحظات التى مرت عليه دهرًا كاملًا وهو على ركبتيه يراها تقطب جبينها وقد بان الذعر فى عينيها قبل أن ينزل جوابها على رأسه بالرفض وكأنه الصاعقة، قبل أن تستدير وتركض هربًا من ذلك المجنون الذى لم يمر على لقاءها الأول به سوى لحظات معدودة قبل أن تراه على ركبتيه داعيًا إياها أن تكون زوجته ورفيقة دربه، هو نفس الموقف نفس الأشخاص والتركيبة ونفس الظروف والملابسات فما الذى تغير؟ بالنظر إلى ما حدث نجد أن ما تغير هو شعور الفتاة نفسها ولا شىء آخر، ذلك الشعور الذى أحال الموقف إلى رومانسية مفرطة أو جنون مطبق أو هكذا هو ما يؤمن ديفيد هيوم بأنه ينبغى أن يكون، وأن الحقيقة ليست إلا ما نشعر به تجاهها أو كما عبر "إن العقل أسير للعواطف، وينبغى أن يكون هكذا، فلا يمكن للعقل أبدًا أن يتظاهر بأى شىء آخر غير أن يخدم تلك العواطف وينفذ ما تمليه عليه.". لم كل ما سبق؟ لنرى، فكذلك أصبح الحال بالنسبة لنا، أصبحت الحقيقة أسيرة لشعورنا تجاه هذا وذاك، بل وربما تخطت هذا لتصبح أسيرة لاحساسنا تجاه أنفسنا وما تقترفه أيدينا، فأصبح كل فعل يصدر عن هذا يُرى بعين الجنون، ونفس الفعل يصدر عن ذاك نجد مبرراته تسوقنا، فبالأمس القريب تجد البلاد وهى ترزح تحت حكم مرسى وقد اختفت الطاقة فتنهال اللعنات عليه، نسمع عن مياه النيل التى تضيع تحت وطأة تهديدات سد النهضة وسط تحركات عبثية هزلية من الحكومة فتستشيط الجماهير غضبًا، تحاصر فلسطين وتُضرب غزة ويترضى المعزول على الصحابة فى إيران وكأنه قد فتح عكا بل وربما حيفا ويافا بينما تفوح خطاباته لإسرائيل بكل حب وود فينهال السباب على مرسى ومرشده -لعن الله حمقهما-، واليوم وكأن نصف ثورة ونصف إنقلاب لم يقم، أو ربما قام ليأتى على ما تبقى من وطن يترنح بعد أن نال منه الخونة واللصوص والحمقى، فها هى الطاقة تختفى، وها هو السد يقام، وها هى الحكومة تعبث كما عبث الذين من قبلها، وها هو المشير يذهب إلى روسيا ليأتى لنا بجاكيت يرتديه فى مباحثاته حول الدفاع عن اسرائيل وحماية أمنها دون أى خطوة جادة -أو نصف جادة- للنظر إليها كعدو، وها هى غزة تقصف، وها نحن نرى ونهلل لما كان بالأمس يحرك بنا بقايا من روح باحثة عن العدل، بل ربما ما زاد الطين بلة هو أننا وسط هذا الدمار نلتف يمينًا ويسارًا لنرى دماءنا ودماء رفاقنا تغطى كل يد فنتجاهل كل هذا ونصرخ طالبين بالموت لفلسطين تلك التى بلا حول ولا قوة، وكأن الخجل قد خجل حتى من أن يعترينا. هكذا هى الحقيقة الآن أصبحت لنا كما يأتى لنا ذلك الأحمق بعشيرته البلهاء فنرى الجنون فى كل ما حولنا، بينما حين ينزل لنا ذلك الذى لا يقل جورًا وظلمًا عمن سبقه من فوق صهوة جواده الأبيض وقد ملأت نبرات صوته السهوكة حينًا والمُحن أحيانًا فيترقرق الدمع فى أعيننا وكأن الجنة قد أصبحت على مرمى البصر، دون أى محاولة حقيقية لإدراك الحقيقة فى ذاتها دون النظر إلى شعورنا تجاهها، فربما حينها وحينها فقط ندرك أن المياه تضيع، والطاقة تغيب، والتبعية تستمر، وفلسطين تقصف بصمتنا -إن لم يكن بأيدينا-، وأن ما نعيشه منذ دهر لا نختلف فيه بين دياثة لهذا أو عهر لذاك، فلا هذا ولا ذاك ساروا ولو قيد إنملة إلا فى درب تحطيم ما تبقى من قيم قامت عليها ما كانت تدعى يومًا ثورة.