وزارة العمل تُعلن عن وظائف خالية برواتب مجزية    محافظ سوهاج يتفقد حي شرق ومدينة أخميم.. ويوجه بإغلاق محال مخالفة ورفع الإشغالات والقمامة    بنك التنمية الصناعية يحصد جائزة التميز المصرفي في إعادة الهيكلة والتطوير لعام 2025    أسعار الخضراوات والفواكه بكفر الشيخ اليوم.. البطاطس ب8 جنيهات    عائلات الأسرى: نشعر بالقلق بسبب مزاعم جيش الاحتلال بتوسيع العملية العسكرية    إجلاء مئات الآلاف بسبب إعصار ويفا جنوب الصين    الأمطار الغزيرة تودي بحياة 10 أشخاص على الأقل في كوريا الجنوبية    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى نحو مليون و41 ألفا و990 فردا منذ بداية الحرب    استشهاد طفلة فلسطينية نتيجة مضاعفات سوء التغذية والجوع    وزير الدفاع الإسرائيلي يختتم زيارته لواشنطن ويشيد بعملية استهداف البرنامج النووي الإيراني    المصري يبدأ تدريباته في "سوسة" التونسية استعدادا للموسم الجديد    «الأرصاد»: انخفاض طفيف في درجات الحرارة.. والعظمى بالقاهرة 35 درجة    إصابة شخصين إثر حادث انقلاب سيارة فى أطفيح    إحالة طرفي مشاجرة نشبت بالأسلحة النارية في السلام للمحاكمة    مدمن شابو.. حكاية مقتل شاب طعنا وإصابة اثنين آخرين ببولاق الدكرور    عمرو دياب يتألق ويشعل المسرح ب "بابا" في حفله بالساحل الشمالي    بكلمة ساحرة.. ريهام إبراهيم تفتتح فعاليات الدورة ال18 للمهرجان القومي للمسرح    الصحة السورية تعلن إرسال قافلة طبية عاجلة إلى السويداء    الصحة: اعتماد 61 منشأة رعاية أولية من «GAHAR»    مصرع 3 أطفال أشقاء غرقا داخل حوض مياه ببالبحيرة    إذاعة القرآن الكريم تحيي ذكرى رحيل الشيخ محمود على البنا    إصابة عامل بطلق ناري في مشاجرة بمركز جرجا في سوهاج    المبعوث الأمريكي إلى سوريا: لغة السلام والحوار طريق الخروج من الأزمة الحالية    رسمياً.. فتح باب التقديم للكليات العسكرية 2025 (شروط الالتحاق والتخصصات المطلوبة)    بكام الفراخ النهارده؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية اليوم الأحد 20 يوليو 2025    رسميًا.. موعد بداية العام الدراسي الجديد في المدارس والجامعات وقرارات وزارة التربية والتعليم للمناهج    بكام الطن؟.. أسعار الأرز الشعير اليوم الأحد 20 -7-2025 ب أسواق الشرقية    توقعات الأبراج حظك اليوم الأحد 20 يوليو 2025.. طاقات إيجابية وتحولات حاسمة بانتظار البعض    أحمد شاكر: اختفيت عمدا عن الدراما «مش دي مصر».. وتوجيهات الرئيس السيسي أثلجت صدر الجمهور المصري    في حفل سيدي حنيش.. عمرو دياب يشعل المسرح ب"بابا"    موعد بداية شهر صفر 1447ه.. وأفضل الأدعية المستحبة لاستقباله    دعاء الفجر | اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك    ب9 آلاف مواطن.. مستقبل وطن يبدأ أولى مؤتمراته للشيوخ بكفر الزيات    أحمد شاكر عن فيديو تقليده لترامب: تحدٍ فني جديد وتجربة غير مألوفة (فيديو)    سعر طن الحديد والأسمنت اليوم في مصر بعد هبوط كبير تجاوز ال1300 جنيه    «دماغه متسوحة.. وطير عربيتين ب 50 مليون».. مجدي عبدالغني يشن هجومًا ناريًا على أحمد فتوح    «اتباع بأقل من مطالب الأهلي».. خالد الغندور يكشف مفاجأة عن صفقة وسام أبوعلي    «حماة الوطن» بأشمون يناقش تعزيز دور الشباب في العمل الحزبي    لويس دياز يبلغ ليفربول برغبته في الانتقال إلى بايرن ميونيخ    «احترم النادي وجماهير».. رسالة نارية من نجم الزمالك السابق ل فتوح    "عنبر الموت".. شهادات مروعة ..إضراب جماعي ل 30قيادة إخوانية وسنوات من العزل والتنكيل    مفتي الجمهورية ينعى الأمير الوليد بن خالد بن طلال آل سعود    جولة تفقدية لرئيس جامعة القناة على شئون التعليم والطلاب    الكونغو الديمقراطية و«إم 23» توقعان اتفاقًا لوقف إطلاق النار    الملاك والمستأجرون وجها لوجه في انتظار قانون الإيجار القديم    حنان ماضى تعيد للجمهور الحنين لحقبة التسعينيات بحفل «صيف الأوبر» (صور و تفاصيل)    علاء مبارك يرد على ساويرس: عمر سليمان «كان رجل بمعنى الكلمة»    ماركا: بعد تجديد كورتوا.. موقف لونين من الرحيل عن ريال مدريد    "روحهم كانت في بعض".. وفاة شخص أثناء محاولته اللحاق بجنازة والدته ببني سويف    نجم الزمالك السابق: عبدالله السعيد يستطيع السيطرة على غرفة الملابس    تجنبها ضروري للوقاية من الألم.. أكثر الأطعمة ضرراً لمرضى القولون العصبي    محمد ربيعة: عقليتى تغيرت بعد انضمامى لمنتخب مصر.. وهذا سبب تسميتى ب"ربيعة"    قافلة بيطرية من جامعة المنوفية تفحص 4000 رأس ماشية بقرية مليج    غلق 6 مطاعم فى رأس البر بعد ضبط أطعمة منتهية الصلاحية    «قولي وداعًا للقشرة».. حلول طبيعية وطبية تمنحك فروة صحية    بلغة الإشارة.. الجامع الأزهر يوضح أسباب الهجرة النبوية    أمين الفتوى: الرضاعة تجعل الشخص أخًا لأبناء المرضعة وليس خالًا لهم    هل يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها الفقير؟.. محمد علي يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في رحاب الصادقين
نشر في البديل يوم 23 - 02 - 2014

هي الحاجة من تعيد اختراعهم رغم الغياب، يتسللون عبر ظلمتنا الحالكة عائدين بعد أن طواهم النسيان؛ لتضم أرواحهم نفوسنا فتَعْمَى عن غيرهم، ويذوي غيرهم حد الخفاء. ندرك حينها أن المتشبهين بهم بيننا هم من ألقوا متفردينا الكبار في غيابة الجب، لأن حضورهم غياب لمن وجودهم محض ادعاء.
زعيم سياسي "محمد فريد"، ومفكر "زكي نجيب محمود"، وعالم أزهري "خالد محمد خالد" حاكهم الله على نول واحد فتشابه نسجهم وإن اختلفت ألوانه.
لم تكن كلمتهم العزلاء مستقيمًا يوازي الفعل فلا يلتقيان أبدا، بل خطًا واحدًا يحتذيه الناس إن شاءوا صعودًا لا انحدرًا، كرامة لا هوانًا، سطوعًا يضيء العقول لا ظلامًا يقبرها؛ لكنه سبيل أعالٍ، عصيٌ على من لم يروض نفسه على غذاء وهواء الأعالي الشحيح! ولنصغي – معًا- إلى حفيفهم المخضوضر لنفرق عندها بينه وفحيح أرباب الزيف الأفعواني، لعل يدنا تمتد حينها إلى حجر أو عصا أو فأس فنهوي بها على رءوس الأفاعي التي تتراقص من حولنا!
زكي نجيب محمود
نادرة هي الأقلام من تجيد رسم الكلمات "التي تسير على أرجل حمائمٍ لتكون قادرةً على تغيير العالم من حولها" إن تهيَّأ لمقدمها، تميزها بتقدمها نحوك في خفةٍ ورشاقةٍ، لا تكون في غير لغةٍ أدبيةٍ رفيعةٍ تتصل بالوجدان فتشعل أواره، ثم تفرد جناحيها لتنطلق بك في سماوات الفكر، فتنظر معجبًا مشدوهًا، ثم مستغرقًا ملتذًا بتلك الرطب الجني التي تسَّاقط عليك من عوالم علوية، وقلم زكي نجيب محمود هو واحد من تلك الأقلام التي أجادت فن المزاوجة بين العبارة التي تعصر القلوب بعذوبتها وجزالتها وبين الفكرة العذراء التي تخلب الألباب بحسنها وبهائها. وهو قلم صادق لا يعدك بسواحل وهمية ترسو إليها نفسك لتلاقي يقينًا مكذوبًا، بل هو قارب وخريطة يدفعها إليك؛ لتبحر بهما أنى شئت، وهي أشياء قد لا ترى دابة القطيع فيها نفعًا تحرص عليه.
كان ال نجيب محمود يَعُدُّ هذه الصفة- الصدق- )لو أتيح لها أن تشيع في جماعة من الناس اتساعًا وعمقًا، لكانت وحدها كفيلةٌ بأن تحقق لتلك الجماعة قفزةً جبارةً إلى أعلى وإلى أمام في وقتٍ واحدٍ"، فأبعادها تُجاوِز المجال الخلقي المحدود؛ لتمتدَ إلى العلوم بجميع فروعها، والدين، والفن، والأدب، والعلاقات الاجتماعية..( ورأى أن شرط الصدق التطابق فتجده )في حالة العلوم يكون بين رموز ورموز في الرياضيات، وبين رموز وواقع في العلوم الطبيعية.وأما في الإيمان وكذلك في الفن والأدب، فهو يتطابق بين مضمون باطني في ذات الإنسان وسلوك يُسلك أو قول يُقال(.
وبمحازاة الصدق أبرز زكي نجيب محمود في كتاباته الوضوح صفة متممة للصدق، معليا شأنها، في حياتنا الفكرية فعَدَّ أن (أهم ما كشف عنه عصرنا في تحليله "للفكر" وطبيعته، هو أنَّ "الفكر" هو نفسه "اللغة" التي يظهر بها.. لأنَّنا لو بقينا نلف وندور حول مفهوم "الفكر" كما نتصوره بأذهاننا، لما وصلنا إلى نتيجة صحيحة حاسمة..أما وقد تبين لنا ذلك الدمج التام بين "الفكرة" و"لغتها".. وليس أمرهما كما ألفنا أن نقرأ عنه ونسمعه أي ما كان يقال عن الجانبين في تشبيهات تجعلهما كالإناء وما يمتلئ به ذلك الإناء؛ فقد أصبحنا أمام تركيبة من رموز لغوية، أو رموز من أعداد أو حروف "كما هي الحال في الرياضة" ننظر كيف رُكِّبت حين وَضُحَ المعنى، وكيف رُكِّبت حين غَمُض المعنى، وكيف رُكِّبت حين خلت من المعنى).
لم تقف هذه الصفة "الصدق" عند عتبة كتابات زكي نجيب محمود؛ بل جاوزتها إلى نفسه فتشربتها أو لنقل تشربت هي نفسه، فكان وصله بوطنه كما ادعاه حق لا مراء فيه، وهل اختار إلا لوطنه لا لنفسه؟!، ليقع على "فلسفة" تنازع مزاجه الأدبي وميله الصوفي، هي "الوضعية المنطقية". رغم جفائها وعدائها للخيال اعتنقها كرافعة تقيل الثقافة العربية من عثرتها، وكضابط (يصلح لها طريق السير). هي العلاج الناجع لبيت دائنا – اللغة- أو هكذا ارتأها. عمد زكي نجيب محمود إلى هذه "الفلسفة" ليطوق عبرها اللغة بعقال المعنى، ويضبط بها الأفكار والرؤى، ولتصبح اللغة حينئذ قيدًا صارمًا على الألسنة التي تنطلق ليل نهار بأقوال لا حد لجموحها (انظر حولك) فَتَقْطُر ثقافتنا عندها من وضع السكون إلى وضع الحركة.
مضى زكي نجيب محمود بعدها عبر حياته المديدة يُموِّج الأفكار موجة موجة بعد أن يغمرها بالصدق والوضوح؛ لتصطدم وياللأسى بحواجز بشرية قُدَّت من زيف، زمجروا في وجه تلك الأفكار، لأن صاحبها لم يخض ذات النهر الذي خاضوا هم فيه، فاتهمه في دينه نفر من أولئك الذين يحلو لهم أن يُرهبوا خصومهم برفع عقيرتهم نقدًا وتجريحًا بل وتكفيرًا من فوق المآذن؛ ليتردد رجع أصواتهم في الفضاء فيوهموا أصحاب العقول القاصرة أنَّ حديثهم هو ذاته حديث السماء، مضى متوجعًا صامتًا لا يُبين عن دخيلة نفسه، فقط تبللت رغمًا عنه كلمات كتابه الأخير بالدموع؛ لتفصح عن ألم ممض اكتواه طويلاً، ويلمم بعدها في حياء حمامة وديعة كلماته المبللة هذه، فاردا جناحيه ليُحلِّق عاليا، لا في سماء الفكر هذه المرة؛ بل في سماء أبعد مدىً.
محمد فريد
كانت الشمس تشرق له وعلينا. هو ابن من أبنائها، ونحن يشفع لنا انتسابنا إليه فللصدق قصة مكتملة الأركان، تروى في سيرته الفريدة. كان مطرًا، يروي الأرض، ولا يشترط الحصاد، ودعوة تدوَِّي في سماء الوطن، ولا تنتظر رجعها بالإجابة.
هو نجل أحمد فريد باشا ناظر الدائرة السنية، أحد الثراة المعدودين في عصره، ليهيِّئ له القدر بذلك موطئ قدمٍ راسخٍ، للحياة الرغيدة؛ إن استجاب لدعوته، لكنه أعرض، ليرحل وراء المعنى فيستقيل بداية من وظيفته المرموقة، كوكيل لنيابة الاستئناف، بعد أن قرر الاحتلال نقله إلى نيابة أحد الأقاليم، عقابًا له على تعاطفه مع صاحب "المؤيد"، الشيخ علي يوسف، الذي قاضته سلطات الاحتلال بسبب ما اعتبرته تسريبًا لأسرار عسكرية، إثر نشره برقيةٍ من سردار الجيش المصري اللورد (كتشنر) إلى وزير الحربية يتحدث فيها عن أحوال القوات المصرية خلال حملة دنقلة عام1896م، وكان فريد ممثل النيابة بهذه القضية، وما إن صدر قرارًا بنقله بعد أن بُرئ الشيخ علي يوسف، حتى استقال احتجاجًا؛ إذ عَدَّ الأمر تعديًا سافرًا على استقلال القضاء.
اشتغل بعدها بالمحاماة لفترة قصيرة (1879 1804م) واعتزلها ليعود إليها مرة ثانية عام1811م بعد أن استنزف جهاده من أجل وطنه قدرًا كبيرًا من ثروته.
اتصل برفيق دربه الزعيم مصطفى كامل عام 1879م، وكان أول عمل يشرعان فيه معًا تأسيس جريدة أسبوعية، باللغتين الألمانية والفرنسية، تُعنى بالقضية المصرية، ومارس الكتابة بالصحف منذ عام 1887 م بمجلة الآداب، وضمت جريدتي اللواء، و(ليتندار ايجيبسان) – التي أسسها مع مصطفى كامل، واكتتب في رأسمالها بمبلغ كبير- مقالاته كذلك، ورافق مصطفى كامل في عدد من سفرياته للتعريف بالمسألة المصرية، ليتولى بعدها منصب وكيل الحزب الوطني، ويخلف توءمه الزعيم المتفرد مصطفى كامل على رئاسة الحزب عام 1908م، بعد رحيل الأخير عن دنيانا.
تولى محمد فريد زعامة الحركة الوطنية في توقيت حرج، فإن كان سلفه العظيم تمتع لفترة بدعم الخديو عباس الثاني وبتأييد الباب العالي بالآستانة؛ ففريد استقبل زعامته خالي الوفاض من كليهما، واستهلها بتقديم عريضة إلى الخديو لإنشاء مجلس نيابي بعد أن رفض مجلس الوزراء طلبا ل"الجمعية العمومية" بذلك ، ونسخ الحزب الوطني من الطلب المقدم للخديو عشرات الآلاف من النسخ وزعها على أعضائه وأنصاره، فاجتمع له 61000 توقيعًا، واتسعت حركة التوقيعات، ليتسرب القلق إلى نفوس إدارة الاحتلال، فيتراجع الخديوي عن تأييدها، ويتكاتف الطرفان لمواجهة هذا الطموح النبيل، ويكتب الزعيم عددًا من المقالات معرِّضًا بهذا التقارب بين الاحتلال والخديو، مذكرًا إياه بمواقفه السابقة في تعضيد الحركة الوطنية، واستمر في جهاده غير مكترثٍ لتلك الأنواء العاتية فضاعف جهوده، ولم تقتصر هذه الجهود على الخطابة، وكتابة المقالات، وإزجاء الحماسة في نفوس شباب الأمة، للمطالبة بحقوق بلادهم في الدستور والجلاء؛ بل امتدت إلى نواحي تُشرف بنا على مدى وعي الحركة الوطنية، في هذه الفترة المبكرة؛ بضرورة إيصال صوتها إلى طبقات لم يك في هذا العصر من يعبأ لها أو بها فأقام مدارس ليلية للعمال والفقراء، بغرض تعليمهم، وانتشرت هذه المدارس في عواصم المحافظات، وعُني فريد كذلك بتكوين نقابات للعمال، فأنشئت أولاها ببولاق سنة 1909، لتكون أول نقابة عمالية بمصر تحت مسمى "نقابة الصنائع اليدوية"، ويتوالى بعدها إنشاء عدد من النقابات العمالية الأخرى. ولم يترك الاحتلال ولا وزاراته المتعاقبة فيضان الخير هذا، يغمر المجتمع لتنبت له إرادة تدحره فأقام السدود حاجزًا، وكان أولاها إيقاف جريدة الحزب الوطني "العلم"، كما أصدرت حكومة محمد سعيد باشا قانونًا يقضي بإحالة التهم الخاصة بالصحافة إلى محاكم الجنايات، ليحاكم الزعيم بمقتضاه بعد ذلك، في قضية هزلية؛ بخصوص كتابته مقدمةً، لديوان شعرٍ، اعتبرته السلطات حينها مخلاً بالآداب العامة، وحكم عليه بالسجن ستة أشهر مع النفاذ. قضى محمد فريد مدة محكوميته كاملةً رافضًا مساوماتٍ ألحت في الانتقاص من نبله، وخرج بعدها، ليحاكم مرة ثانية في عام1912، بعد خطبة له، بمؤتمر للحزب الوطني؛ انتقد بها الحكومة، التي اعتزمت أن تستنزفه، عبر سلسلة من المحاكمات، ليتحول عن جهاده من أجل الوطن، إلى المدافعة عن نفسه؛ ضد تهم باطلة فكان المنفى خيارًا آخر. رحل إلى الآستانة، ومكث بها فترة قصيرة ، لتلتمسه الحكومة المصرية فتقرها حكومة الإستانة على طلبها، واستشعر الزعيم الأمر ففر قبل صدور قرار القبض عليه، هام على إثرها في أقطار الأرض قضية وحيدة، الاستقلال، وراسله الخديو في 1914م للصلح، فاشترط الزعيم الدستور لإنفاذه، ليوافق الخديو مغتبطًا مادحًا إياه (هو رجل مبادئ لا يتغير مهما قاسى في سبيل المحافظة على مبادئه)، وأعلن الخديو بعدها الدستور في نوفمبر 1914، لكن بريطانيا سارعت إلى إعلان الحماية على مصر في ديسمبر 1914، وخُلع الخديو، وسقط الدستور.
لم ينقطع الزعيم عن سعيه، ولم يفتر، وساح في الأقطار، داعيةً لاستقلال بلاده، التي كانت ترزح في هذه الفترة تحت نير الأحكام العرفية، بفعل الحرب العالمية الأولى فاحتجبت شعلة الحركة الوطنية عندئذ وراء ضباب تلك الحرب الكثيف، وبُعيد انقضائها توهجت من جديد كأبهى ما تكون مع ثورة 1919.
كان صاحبها، ولم يكن سعد زغلول سوى رمزٍ لابد منه، نحتها فريد بإزميله ورفيقه العظيم مصطفى كامل؛ لتشخص الأبصار ذاهلةً إلى منحوتته الفريدة، ويرحل المثَّال بعدها منفيًا غريبًا فقيرًا منسيًا، يرحل آخر زعيم سياسي من النسل الشريف الذي خلدته أسطورة "بروميثوس" سارق النار لأجل البشر، من نهشت النسور كبده، وهو واقف وحيد في العراء كنبتةِ صبارٍ!
خالد محمد خالد
بضع عشرات يرافقونه إلى مطالع النور خفيفًا في الرحيل كما في الحياة، حزينًا في غير عبوس، ساخرًا من جهل المُعْرضين كما كان دومًا، ناقضًا في صمت بليغ تلك المقولة التراثية "بيننا وبينهم الجنائز" فلم يفتأ حتى في موته ثائرًا على التراث، هذا ما قصه الراوي عن مشهد الغياب. كان من سلالة خضراء تقبض في شهيقها سمومًا انتشرت بأجوائنا وترسل في زفيرها أكسير وعي، صادق كالطبيعة هكذا كان، متغلب بصلابة تكوينه الصادق ذاك على هشاشة تكلف يبعث على الإزدراء ارتبط بمحيطه الذي درج فيه، وكان أول عمل له ثورةً على هذا المحيط، علماء الدين أو "الكهان" بتوصيفه الذين أزاغوا أعين الناس عن مكامن شقائهم، لصالح السادة المتخمين بالسلطة والثراء، فكان "من هنا نبدأ"، ليكشف هذا العمل عن نسبه العريق إلى سلالة امتدت كخيط رفيع دقيق عبر تاريخنا، تنسلُّ من عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري، وتمتد إلى العز بن عبد السلام، لتصل إلى جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده.
وتتوالى أعماله فتؤكد هذا النسب الشريف. ولم تقتصر مساحة تفرد خالد محمد خالد على انتمائه لتلك المدرسة، بل اتسعت رقعة تفرده لتضم جوانب أخرى فالأزهري غير المعمم باعد الشُّقَّة بينه وأكثرية من يجاورونه وقتها بالمسجد العريق؛ عبر الانفتاح على ما يُصدِّره الغرب لمجتمعنا من فلسفات وأفكار. لم يوغل مثل هؤلاء في جنبات تصور موهوم عن امتلاك للحقيقة فتقرأ في كتاباته رؤى، تتضافر فيها العلوم الشرعية والأفكار العصرية، ولا تبصر أنفةً ممجوجةً جاهلةً على علماء وفلاسفة الغرب؛ تجدها لدى غيره ممن زاملهم بل تقديرًا، واحترامًا، واعترافًا بالفضل؛ رغم الاختلاف. كانت نفسه النازعة للصدق بالغة الروعة فالمفكر الإسلامي الذي تتحرج طبقته أن تَطْعَم أمام الناس، تعرَّى هو أمامهم، لينفي عن نفسه ولو مقدار شعرة من تكلف فتقرأ في سيرته "قصتي مع الحياة" حكاية إنسانية مترعة بالبساطة، كأنَّه أراد أن يقول عبرها "أنا مثلكم أو أقل قليلاً"، ليحكي لنا عن هنَّاته، عن حبه الأول، عن ضعفه الإنساني أمام غرائزه، عن تجربته الصوفية، عن هطرقته العابرة، عن اقترافه السياسة ونجاته منها؛ عن اقترابه من السلطة، وافتراقه عنها.
"إنَّه الإنسان" مجرد إنسان يحب الناس كثيرًا ويرجو لهم الخير جميعًا.. وهو لهذا إذا رأى هدى أو عرف خيرًا؛ سارع فدعا الناس إليه، وبادر فحضهم عليه حتى ذلك الخير الذي قد يعجز هو عن إدراكه يجد غبطة نفسه جميعًا في أن يدل عليه كل قادر، وينادي إليه كل مثابر، هكذا وصف نفسه صادقًا مصدقًا.
لذا فقد طبع وصاياه إلى الناس بطابع إنساني، وساقها إليهم "في صحبة تفاؤل عظيم بمستقبل الإنسان"، ليقول ال خالد النبيل:
لا تدع الخوف يفكر لك، أو يُشر عليك وطهر منه إرادتك، وعش قويًا.
اسبح قريبًا من الشاطئ..وارتكب أنظف الأخطاء.. ولا تقايض على الفضيلة بشيء..
احمل روح الرواد، وابحث عن الدروب غير المطروقة، واجعل مناط سعيك" "ما لم يفعله من قبل أحد"..
لا تعش وعلى عينيك عصابة..وامض بصيرًا.. في يمينك: إلى أين؟، وفي يسراك: لماذا؟
عش صديقًا طيبًا، وليكن "اسمك" نداء النجدة للمكروبين..
اقرأ في غير خضوعٍ، وفكر في غير غرورٍ، واقتنع في غير تعصبٍ، وحين تكون
لك الكلمة، واجه الحياة بكلمتك..
تقبل وجودك وطوِّره..واختر حياتك، وعشها..وابق إلى النهاية حاملاً رايتك..
ول وجهك شطر الله، فإنَّه الحق. وضع يدك في يده..فإنَّه نعم النصير..
وطد مسئوليتك بالحرية.. وحصن حياتك بالعدل..واترك للوجود شذاك..!!
أهلَّت عصور الحب فودع الكراهية
هذه وصاياه العشر، تجمعت كقطرات ندى، على عشب حياته الخضراء، ليصبها جدولاً عذبًا، في كتاب له باسمها؛ لينهل منها كل إنسانٍ حيٍ، وهكذا كان.
محمد السيد الطناوي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.