استشعر فريد عزلة خانقة, فقد خيمت روح الاستسلام والخضوع للإرهاب الاحتلالي وتراجع الكثيرون ولزموا حدود الاعتدال أو ما هو أكثر تراخيا من الاعتدال. وظن فريد وكان مخطئا تماما أنه لا مهرب من هذا الوضع إلا الهروب الي خارج الوطن بدلا من إعادة لم الصفوف وفق مواقف ممكنة. لكن فريد لا يعرف في السياسة إلا لونين فقط أبيض ناصع البياض أو أسود شديد السواد.والغريب أنه اختار الاختيار الأشد سوادا وهو الهجرة. وتتبدي دلالات تشير الي أن كثيرين من المحيطين به وهم من المدسوسين من الخديو أو من الاحتلال قد زينوا له ذلك. والمثير للدهشة أن أول من بادر بالهجرة من قادة الحزب كان الشيخ عبد العزيز جاويش وكان الأكثر تشددا في صفوف الحزب. ثم هاجر فريد في مارس1912 وهاجر قبله وبعده عشرات من أفضل كوادر الحزب. فالأفكار المتشددة حظرت عليهم التوظف في حكومة تخضع للاحتلال ولا وظائف خارج الحكومة فسافروا بحثا عن لقمة العيش, ولعل هذه المفارقة تلخص كل شيء: أن ترفض ما تعتقد أنه خطأ وهو ليس كذلك فتهاجر لتقع في الخطيئة الكاملة.وكانت هجرة فريد بمثابة انقطاع التيار الكهربائي عن ماكينة العمل الوطني فتوقف إنشاء النقابات والجمعيات التعاونية ومدارس الشعب, وأصيبت حركة النهوض الوطني بالانكماش والضعف أما اللجنة الإدارية للحزب فقد انقسمت ولم تعد قادرة علي مجرد الاجتماع( صبري أبو المجد أمين الرافعي ص54).ويتلقي فريد في المنفي الاختياري رسائل تملأ النفس حسرة نورد كنموذج منها رسالة من د. اسماعيل صدقي مؤرخة في أغسطس أي بعد أربعة أشهر فقط من هجرته تقول إن الأسف يخالجني بأشد تأثيره كلما رأيت الضعف قد تغلب علي تلك الهمم التي كانت عمادنا في عملنا الوطني( المصور 14 11 1969) ورسالة أخري من أحمد وفيق مؤرخة في13 6 1914 تقول اننا عدد قليل جدا وبكل أسف لا نعمل أي شيء والحركة تغط في النوم.ثم يأتي إعلان فرض الحماية البريطانية علي مصر في1914/12/18 وقبلها بشهر فرضت الأحكام العسكرية ثم تم خلع الخديو توفيق( الوقائع المصرية1914/12/19). لكن فريد يبقي علي كبريائه رغم كل شيء وعندما عرض عليه أن يقابل الصدر الأعظم يقول للرسول سأقابله ولكن فليحسن استقبالي لأني لا أتحمل أي إهانة واشترطت أن أحمل علي صدري شارة الحزب الوطني المكتوب عليها مصر للمصريين ويكتب فريد في مذكراته قابلت الصدر الأعظم فأحسن مقابلتي( محمد صبيح. مواقف حاسمة ص319). ويروي فريد في مذكراته أنه خلال إقامته القصيرة في الأستانة استدعاه عزيز بك مدير الأمن العام فجلست إليه بلا أقل احترام وتعمدت إظهار العظمة وخلعت طربوشي ووضعته علي كرسي والبالطو ووضعته علي كرسي آخر ووضعت إحدي رجلي علي الأخري وسألته بكبرياء هل أنا أجلس إليك كمتهم فقال بآدابهم التركية المبنية علي الرياء أستغفر الله أفندم نحن إخوان أنا فقط أستعلم منك عن بعض نقاط( فتحي رضوان مقال بالمصور1969/11/14) ويمضي فريد في تشدده ويروي كيف قابله مسيو بوسنو وهو مسئول فرنسي كبير وتحاور معه موجها اللوم الي مواقف الحزب التي تقاربت مع ألمانيا وتركيا خلال الحرب ثم قال هل تتفقون مع انجلترا إن وعدتكم بالاستقلال فقلت نحن لا نثق في وعود انجلترا ولا فيكم( صبيح ص300) وعندما سئل فريد وماذا تفعل إذا هزمت تركيا وألمانيا في الحرب؟ أجاب نجتهد ساعتها في تجهيز الثورة في مصر وليس الاعتراف بالحماية البريطانية مهما كان شكلها ومهما أعطانا الانجليز من الامتيازات( صبيح ص320) ونلاحظ انها المرة الأولي التي ينطق فيها فريد بلفظ الثورة. لكن الثورة تقوم بالفعل ولكن علي أيدي من عاداهم فريد بسبب اعتدالهم. والحقيقة أن قيادتهم للثورة لم تكن بسبب الاعتدال وإنما لأنهم كانوا علي أرض مصر. ويفاجأ فريد بالثورة تشتعل علي أيديهم ومع ذلك يكتب في رسالة وجهها الي الشعب المصري إخواني المصريين الأعزاء. ان الصوت الذي يناجيكم اليوم صوت منعته الظروف من الارتفاع في صحف مصر من نحو سبع سنوات لكن منعه من الارتفاع علي ضفاف وادي النيل لم يكن عقبة تعوقه عن الدفاع عن القضية المصرية. صوت هذا الضعيف لم يخفت يوما, ولم يتأخر بما تفرضه عليه الوطنية طرفة عين, بل كان يزادد قوة ونشاطا كلما تراكمت أمامه الموانع. ان هذا الصوت يناجيكم ليهنئ الأمة المصرية علي تضامنها في المطالبة بحق أمنا المظلومة مصر ثم يقول وكأنه يذكر الجميع إن الثورة هي ثمرة من ثمار البذور الذي غرستها الحركة الوطنية( المصور مقال لصبري أبو المجد1963/11/14). لكن أحدا في مصر لم يسمع بالرسالة ومن سمع بها لم يهتم بها, فقد كان الجميع منغمسين في غمار الثورة ولا وقت لديهم لغيرها بل انها أثارت حفيظة سعد وهو خارج البلاد. وأرسل له عبد الرحمن فهمي وهو في غاية السعادة ليبلغه ان بقايا الحزب الوطني دعت الي احتفال بذكري مصطفي كامل فأرسلت شبابنا الي الاحتفال فأسكتوا زعانف هذا الحزب وهتفوا عاليا بحياة سعد.ويرحل فريد حزينا وربما غاضبا من نفسه علي هجرته. ويصل نعيه الي مصر لكنه يتوه في غمار ثورة الشعب وبسبب من التعتيم الوفدي. غير أن الأهرام تنعيه قائلة مات فريد وكفي باسمه وصفا لحياته, مات غريبا عن وطنه حبا بذلك الوطن فأحياه موته في قلب كل مصري.استمات في حب الاستقلال فمات وحياة أمته في عنفوان الشباب(1919/11/19) وتقول الاجيبسيان ميل لسنا من رأي الزعيم الوطني الراحل ولكننا لا نملك إلا أن نبدي اعجابنا بخلقه وصدق شعوره بالوطنية(1919/11/19). ويتجاهل الوفد وزعيمه جثمان فريد حتي يتطوع مواطن بدفع نفقات نقله الي مصر وأمام القبر يقف حافظ إبراهيم ليقول وكأنه يعتذر له:ها هنا قبر شهيد في هوي أمة أيقظها ثم رقد .. نعم أيقظها ثم رقد.ويودع جثمان فريد الثري في حضور عدد محدود من المصريين وكأنه أقل شأنا من أي واحد من آحاد الناس.مات فريد وقد ظلم نفسه وظلم حزبه وظلم وطنه, لكنه يبقي دوما ساطعا في السماء المصرية فقد كان رمزا للكبرياء الوطني والعطاء بلا حدود.. انه نموذج نادر يعطي كل شيء ولا يأخذ لنفسه شيئا. المزيد من مقالات د. رفعت السعيد