مهما كتبنا عن محمد فريد فإننا نحتاج إلي مزيد. فهو يستحق الكثير, وعندما كتبت عنه بمناسبة ذكري وفاته التسعين تلقيت كثيرا من التساؤلات. لماذا هاجر فريد تاركا وطنه وشعبه وحزبه؟. ولعل اجابتي ودون أدني رغبة في التبرير لما لا يمكن تبريره هي ماذا يفعل المناضل عندما يتراجع الآخرون؟ الخديو ارتمي في أحضان الاحتلال وكذلك الأعيان فازداد الاحتلال شراسة ووحشية, بينما فريد يرفع شعارات صعبة أو حتي مستحيلة التنفيذ مثل لا مفاوضة إلا بعد الجلاء. فكيف يأتي الجلاء. بينما هو ينفي من نفسه وعن حزبه تهمة الدعوة للعمل الثوري؟ وفي نفس الوقت يرفض التفاوض, ومثل عار علي المصري أن يقبل الوظيفة الحكومية في ظل الاحتلال فكيف يعيش المثقف المصري المخلص لوطنه في بلد مصدر الرزق فيه هو التوظف؟ الأمر الذي دفع الكثيرين إلي الهجرة باعتبار أنه الموقف الوطني الصحيح, وماذا يفعل عندما يسعي البعض لشق صفوف الحزب بمقولة الدعوة للاستقلال جريمة في حق الإسلام, لأنه لا وطنية في الإسلام, ولأنه من الضروري الخضوع لدولة العثمانية؟ وفي ذات الوقت انهالت المطارق علي الحزب ورجاله؟ ويكتب السيد ألن جورست المعتمد البريطاني مبشرا حكومته في عام1912 بأن المعتدلين منحوا البلاد مناخا يبعث علي الأمل بأن الجو قد صفا وروح التعقل تغلبت( جورست تقرير عن الحالة العمومية صفحة ح). ويكتب كتشنر في عام1913 ان مصر أدركت ما تؤدي إليه نصائح المتطرفين من وخامة العاقبة فمالت إلي ضدها برد الفعل,( تقرير الحالة العمومية 1913 ص9) ماذا يفعل والصحف تنشر وبلا استحياء قصائد مديح في الانجليز كتبت أيضا بلا استحياء. فولي الدين يكن يشكر جورج الخامس علي إعلان الحماية علي مصر يا أيها الملك العظيم سلام هتفت ببيعتها لك الأقوام مصر الوفية لاتزال وفية وكما عهدت النيل والأهرام نالت حمايتك التي اعتزت بها أمثالها واستمكن الاسلام (المقطم1914/12/18). وحتي حافظ إبراهيم شاعر الوطنية أدهش الجميع بقصيدة يهنيء فيها السلطان حسين كامل بتولية الانجليز له سلطانا علي مصر فيقول: ووال القوم إنهمو كرام ميامين النقيبة أين حلوا لهم ملك علي التاميز أضحت ذراه علي المعاقل تستهل فإن صادقتهم صدقوك ودا وليس لهم أن فتشت مثل ماذا يفعل فريد وقد حوصر من كل مكان؟ لقد فقد ثروته كلها. تلك التي ورثها عن أبيه والتي كسبها من مهنته كمحام شهير, ولم يعد لديه ما يصدر به جريدة الحزب ولا حتي ما يعيش به, والاحتلال دس إلي صفوف حزبه من يدعون للاعتدال وآخرين يدعون للعنف كي يمنح الاحتلال الفرصة لضرب الحزب ضربات موجعة. وفي31 أغسطس1912 صدر قرار بتعطيل اللواء نهائيا. وفي7 نوفمير1912 صدر قرار باغلاق جريدة العلم التي يصدرها الحزب بحجة أنها لسان حال حزب اتخذ رئيسه خطة التهييج( الرافعي محمد فريد ص344). وظن الخصوم أن الصيد أصبح سهلا فهو محاصر ومفلس وحزبه يزداد ضعفا وتفككا وصحفه توقفت وفي باريس يقابله مندوب يعرض عليه الوزارة وأن تحل كل مشاكله المالية فرد فريد بإباء ان ضياع ثروتي لا يؤثر علي مبادئي وإني أرفض أي منصب حكومي مادام الانجليز في مصر( الهلال العثماني1912/5/24) مقال لمحمد فريد) لكن الرسول يتبعه إلي الاستانة منتهزا فرصة تقديم فريد للمحاكمة بتهمة كتابة مقدمة ديوان وطنيتي فيعرض عليه تسوية القضية وتعيينه وزيراويقول ملخصا عرضه الوزارة أم السجن؟ ويرفض فريد ويقول هائنذا عائد إلي مصر لأحبس( المرجع السابق) وسمع العثمانيون بالعرض ويالرفض فعرضوا عليه منصب عميد كلية الحقوق بالآستانة لكنه رفض وهو في أشد الحاجة لمورد رزق( محمد علي غريب محمد فريد, الفدائي الأول ص73). وعندما يقبض عليه زاره زنزانته كوكس باشا مدير مصلحة السجون وقال له إني أسعي للعفو عنك إذا وعدت بتغيير خطتك فاجابه فريد: إن ما تطلبه مستحيل. فتراجع كوكس وقال: أنا لا أطلب منك تغيير مبادئك ولكن تخفيف لهجتك فرفض. فقال كوكس أنت إذن تريد ان تمضي الستة اشهر في السجن؟ فأجاب فريد: وأزيد عليها يوما وزارة في السجن الدكتور عثمان غالب موفدا من الخديو وقال له: ان الخديو مستعد للعفو عنك إذا قدمت طلبا بذلك, فإن لم تشأ تقديم الطلب اقدمه أنا نيابة عنك فقال فريد أنا لا أطلب العفو ولا أسمح لأحد من أهلي وأصدقائي أن يطلبه نيابة عني. وإذا صدر العفو فلن أقبله( عبدالرحمن الرافعي المرجع السابق ص384). وعندما نشر أحمد لطفي السيد مقالات تطالب بالعفو عنه قال لزائريه أرجو أن تبلغوا لطفي باشا أن يتحاشي طرق هذا الموضوع, فهذا مالا اقبله ولا أرغب فيه( الرافعي المرجع السابق ص384). وهكذا... أري العنقاء تكبر أن تصادا فعائد ما استطعت له عنادا ولكن تجربة فريد تؤكد أن الشجاعة والإصرار والترفع لا تكفي كلها, فلابد معها اتخاذ الموقف الصحيح والقادر علي جذب الجماهير إلي المعركة. وليس التغريد بعيدا عن ممكنات التحرك الثوري.