تبدو مصر على أعتاب مرحلة جديدة ومفصلية في تاريخها، حيث تسعى إلى بناء نظامها السياسي الجديد بعد ثلاث سنوات من الاضطرابات والهدم، شهدت خلالها حالة فوران سياسي و اجتماعي بعد فترة طويلة من الجمود والخمول، لكن هذا الفوران لم يشق طريق واحد نستطيع أن نطمئن له، و بدلا من ذلك أصبحنا أمام مفترق طرق جميعها ضبابية وطويلة، مليئة بالمنخفضات و الارتفاعات و المنحنيات مما يجعل من عملية استكشفاها أو بيان الأفق التي يمكن أن تؤدي إليها، عملية بالغة الصعوبة، تثير الكثير من الجدل و الاختلاف، في وقت لم يعد فيه الوقوف في المكان انتظارا لتبيان الأمور خيارا مطروحا، فإذا كان هناك ضباب كثيف يلف المستقبل، فإن أشباح الماضي و ضواري الحاضر تتأهب للانقضاض على كل من يقف، و لو لبرهة، في مكانه..!! المضي إلى الأمام، بخطوات واسعة و سريعة، لا بديل عنه، حتى و إن كانت الخرائط مرتبكة و مفاتيحها مستغلقه. و بعد إقرار الدستور، أصبحانا أمام الاستحقاق الرئاسي، و أكثر ما يثير الجدل و الاختلاف في هذا الاستحقاق، هو مسألة مشاركة عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع الحالي، في انتخابات الرئاسة، بعد تخليه، أو اعفاءه، من منصبه بالطبع. فوز السيسي بالانتخابات، وبأغلبية كبيرة و مريحة، أمر يرجحه الكثيرون، لذلك فليس من الغريب مثلا أن تكون معركة حمدين صباحي و أنصاره بالدرجة الأولى هي منع ترشح "عبد الفتاح السيسي" لمنصب رئيس الجمهورية، مما يعني أن معسكر حمدين، يرى أن العقبة الوحيدة التي يمكن أن تحول دون فوز حمدين بانتخابات الرئاسة هي مشاركة السيسي في هذه الانتخابات، لذلك كان كل تركيز على منع و إيقاف القاطرة التي تدفع بترشيح السيسي. فهل هذا هو واقع الحال بالفعل..؟؟! لكن ليست مسألة ما يثيره حمدين و فريقه فقط، بل هي قبل ذلك ما يقوله تيار واسع من سياسيين و نشطاء و حقوقيين و كتاب بخصوص أن ترشح ثم تولي السيسي للمنصب الرفيع يشكل عقبة كابحة أمام التحول الديمقراطي في مصر، بل و يهدد بإجهاضه تماما.. وهذا الطرح هو الذي يستحق بالفعل الفحص، ليس فقط لأنه الأهم، و لكن أيضا لأنه يبعد النقاش عن الشخصنة، و يخلصه من الدوران في دوائر عدمية يكون كل شاغلها الرد على هذا أو الاشتباك مع ذاك، وهذا، ما نحتاجه الآن بشدة، حوار موضوعي يحاول أن يقترب من فهم الحالة نفسها بدون ميل أو انحياز أو شخصنة للمسألة. في سبيل ذلك يمكن أن نمارس تمرين ذهني بسيط و نتخيل المستقبل المنتظر لعملية التحول و التطور الديمقراطي في مصر، في حالة غياب السيسي عن قائمة المرشحين للرئاسة، حسبما يرى هذا الفريق من السياسيين و النشطاء. و الآن فلنحاول أن نبني تصور عقلاني مبني على معطيات الواقع، لنرى كيف ستكون الأمور في حالة عدم ترشح السيسي لانتخابات الرئاسة….؟؟ الأرجح أننا في هذه الحالة سنجد بجانب حمدين في السباق الانتخابي مرشح إسلامي، وهو عبد المنعم أبو الفتوح، و آخر يعتبر مرشح يمثل شبكة القوى الاجتماعية التي تضررت بشدة من سقوط نظام مبارك، و هو أحمد شفيق، بجانب سامي عنان و مراد موافي، وأيضا لن يفوت خالد علي و أبو العز الحريري الفرصة و سيلتحقون بهذا السباق، وبالطبع هناك آخرين، ولكن هؤلاء سيكونون أبرز المرشحين في الانتخابات. الخطوة الثانية هي فرز الكتل الانتخابية التي ستؤثر بشكل حاسم في اتجاهات التصويت، هناك بالطبع تلك الشريحة الاجتماعية التي استفادت بشكل مباشر من مبارك و عصره، فكان زمان مبارك هو زمان صعودها و انتعاشها على كل المستويات، وهي الشريحة التي دفعت بالمرشح "أحمد شفيق" في أول انتخابات رئاسية إلى جولة الإعادة، ليس فقط بوزنها الانتخابي، وليس فقط بسبب حجم التمويل الضخم الذي وفرته لحملة شفيق الانتخابية، ولكن أيضا بسبب حجم تأثيرها وقدرتها على الحشد، التي في حدها الأدنى تتمثل في توجيهها لمجموع العمال والموظفين العاملين في منشأتها و عائلاتهم، بجانب الشبكات المرتبطة بهم، للتصويت إلى المرشح الذي تختاره. والظاهر أن هذه الكتلة لم تتعرض للانكماش، بل إنها ازدادت توسعا و ضمت إليها شرائح أخرى من الطبقة الوسطى، وهم هؤلاء الذين إن لم يكن قد استفادوا من عصر مبارك بشكل مباشر، إلا أنه على الأقل كان زمانه يوفر لهم الحد الأدنى من الاستقرار والأمن، وهو ما افتقدوه بشده بعد الثورة ولم يشعروا بأي تقدم أو حتى بوادر بأي تقدم في المستقبل يبرر لهم ما خسروه من أمن و استقرار، هذه الكتلة التي انضمت إلى المعسكر المعادي لما يسمى بثورة يناير اتسعت و زادت أيضا بعدما رأوا أن الثورة وما يسمى بالثوار أدوا في النهاية إلى تسليم البلد إلى جماعة الإخوان المسلمين، فأدائهم في الانتخابات البرلمانية، كما لمسوا ورأوا، كان بالغ التخبط والعشوائية والركاكة مما أدى إلى برلمان أكتسحه التيار الديني، ثم إنهم لم يستطيعوا الاتفاق على مرشح في الانتخابات الرئاسية مما أدى إلى تفتيت الأصوات وفي النهاية فإنهم وقفوا مع المرشح الرئاسي لجماعة الإخوان المسلمين فكانت النتيجة تسليم السلطة للجماعة…!!! هؤلاء بالضبط هم الذين رفضوا دعاوي عاصري الليمون بالتصويت لمرسي العياط، بل و أيضا رفضوا دعوات مقاطعة انتخابات الإعادة ونزلوا وصوتوا لشفيق، مما جعله يستحوذ في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الماضية على نسبة من الأصوات كادت أن تلامس سقف ال 50%. و الظاهر أنه بعد عام من حكم الجماعة فإن هذه الكتلة لم تنكمش، بل إنها زادت واتسعت وأضيف إليها حتى مجاميع من قاع المجتمع، الذين مع معاناتهم أشد المعاناة في عصر مبارك إلا أنهم أيضا افتقدوا الهدوء والاستقرار بعده، فأصبحت الأمور أكثر صعوبة مما مضى بكثير. لذلك ليس من قبيل المبالغة تقدير هذه الكتلة الآن بنسبة تتراوح ما بين 30% في حدها الأدنى إلى 50% في حدها الأقصى من حجم الناخبين. هؤلاء بالطبع لن يصوتوا لحمدين صباحي أو لغيره من المحسوبين على التيار الثوري، و سيصوتون بشكل كثيف لمرشح الدولة، أو ما يفهم أنه مرشح الدولة، القادر على استعادة الأمن و ردع التيار الديني عموما و الإخوان بصفة خاصة، أيا كان هذا المرشح…!! والأن فلننتقل إلى الضفة الأخرى، والتي تمثل ما تبقى من الكتلة الانتخابية، أي ما بين 50% إلى 70%، مبدئيا هناك 20% على أقل تقدير من هذه الكتلة تمثل التيار الإسلامي والمتعاطفين معه، الذين لا يقبلون بشيء أخر غير المشروع الإسلامي، ولا يرون في كل ما جرى سوى مؤامرة كبرى على الإسلام، و أن الإسلام في خطر ومهدد، هؤلاء بالطبع سيلقون بكل ثقلهم وراء المرشح الإسلامي، الذي سيكون عبد المنعم أبو الفتوح على الأرجح، وهو في الحقيقة رهان الجماعة الحقيقي على الأقل في حالة غياب السيسي عن الانتخابات الرئاسية. يتبقى من 50% إلى 30% من الكتلة الانتخابية، فكيف يمكن التنبؤ بالاتجاهات التصويتية لهؤلاء، هل هؤلاء كلهم بالفعل يمثلون الرصيد الانتخابي لحمدين صباحي، أو حتى لمرشح واحد يمثل ما يسمى بالتيار الثوري…؟؟! أخشى أن هذا أبعد ما يمكن الرهان عليه. و لن نلجأ هنا إلى منهج الفرز و التصنيف و التقسيم إلى نسب كما فعلنا سابقا، لأن الأوراق هنا مختلطة بشدة، ولكن يمكن أن نلجأ إلى عدة مؤشرات تهدينا إلى اتجاهات التصويت الرئيسية داخل هذه الكتلة. لنبدأ بما يسمى التيار الديمقراطي الراديكالي، و هو يضم خليط من الليبراليين واليساريين و جماعات ضغط (أشهرها 6 أبريل) ونشطاء شبان وحقوقيين، و هؤلاء مشكلتهم الرئيسية ليست مع نظام مبارك، بل إنني رأيت بعضهم في فترات ماضية يرحب بسيناريو التوريث كطريق للخلاص من الحكم العسكري..!! فهؤلاء تناقضهم الرئيسي مع الدولة المصرية ذاتها، على أساس أنها دولة يوليو التي يجب إزالتها من جذورها، وإعلان الحرب ضد مؤسستها، وعلى رأسها بالطبع الجيش والشرطة والقضاء، فهذه الدولة كانت السبب الرئيسي لإجهاض المسيرة الديموقراطية التي كانت مصر ماضية فيها في الحقبة الليبرالية (العهد الملكي)، فقد جاءت حركة الضباط الأحرار و "المجرم" جمال عبد الناصر، كما يذهبون في وصفه، كإجهاض لهذه الديموقراطية الرائعة. هؤلاء هم في الحقيقة من صك شعار "يسقط حكم العسكر"، تأمل وانتبه لدلالة الشعار جيدا، و هم بالطبع، برغم كل محاولات حمدين صباحي و فريقه لإرضائهم وخطب ودهم بل وتبني شعارتهم، لن يصوتوا لحمدين صباحي أبدا، لأن شبهة انتمائه الناصري تلاحقه، لذلك فهو يمثل امتداد لدولة يوليو حتى لو كان خارجها، وقد رأيت ذلك بنفسي في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة السابقة، فالأغلبية الساحقة منهم صوتت لعبد المنعم أبو الفتوح، ونسبة ضئيلة أعطت لخالد علي، و لم أر في دائرة معارفي وصلاتي بهم، وهي طويلة و قديمة، سوى واحد فقط صوت لحمدين صباحي…!! و أبرز ما يدل على ثباتهم على نفس السلوك التصويتي، أنه بمجرد ما تم انتهاء حكم الاخوان، و قبل أن يطرح بشدة ترشيح السيسي، كانوا هم أول من روج ونشر وأذاع مقولة أن حمدين هو مرشح المخابرات..!! وأنا على يقين تام أن هذه المقولة ستعود للتردد بقوة بمجرد أن يطمئنوا أن السيسي لن يترشح… ومن المفارقات بالفعل، أنه ربما تكون فرصة حمدين الوحيدة لتصويت جزء معتبر من هذا التيار له هي عند مشاركة السيسي في انتخابات الرئاسة، غير ذلك هم ذاهبون إلى إعادة إنتاج ما فعلوه في الانتخابات الرئاسية الأولى، أبو الفتوح وخالد علي. ثم ماذا عن الأحزاب، كيف سيكون سلوك هذه الأحزاب في حالة غياب السيسي عن قائمة المرشحين للرئاسة…؟؟!! يقول كثيرون أن تأثير الأحزاب في مصر ضئيل وهامشي إلى أبعد الحدود، يمكن القول أنه تافه و لا يجب الالتفات إليه، وهذا بالفعل، حتى لو تجاهلنا المبالغة في القول، صحيح إلى حد كبير، لكن من المفيد قراءة اتجاهاتها حتى في ظل الإيمان بهامشية تأثيرها. هناك أحزاب التيارات الدينية، وهي كلها تقريبا يقع نفوذها و تأثيرها في دائرة ال 20% الخاصة بالتيار الديني التي تكلمنا عنها من قبل، ربما نستثني هنا حزب النور السلفي، الذي أعلن أنه لن يدعم مرشح إسلامي، لكن تأثير هذا الحزب، حتى بين دوائر السلفيين لا يبدو أنه نافذ أو كبير. وهناك الأحزاب المدنية وهي كلها تقريبا تتركز فيما يسمى بجبهة الإنقاذ، وبعيدا عن السيناريو الذي نتكلم عنه، فإن الأحزاب الأكبر والأقوى في هذه الجبهة، مثل الوفد و المصريين الأحرار والتجمع والمؤتمر، قد حسمت الآن موقفها بدعم السيسي بلا حدود، بل وترافق هذا الدعم مع الاعتراض الواضح والصريح على حمدين صباحي كمرشح لجبهة الإنقاذ أو دعمه كمرشح للثورة، يتبقى هنا الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي الذي لا يبدي أي ممانعة في ترشيح السيسي لمنصب الرئيس، وإن كان يؤجل إعلان دعمه، حتى يتم طرح برنامجه الانتخابي، و هو في رأينا تأجيل شكلي أكثر مما هو جوهري، وهناك أيضا حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، ولكن هذا الحزب يعاني من انقسامات عديدة حتى أصبح بقائه أصلا مشكوكا فيه. ويبقى سؤالنا الأصلي، ماذا في حالة غياب السيسي عن قائمة المرشحين…؟؟!! في الحقيقة يمكن الجزم بدون مخاطرة كبيرة، أن هذه الأحزاب، بل و أحزاب جبهة الإنقاذ كلها إذا أستثنينا التيار الشعبي والكرامة والأحزاب الهامشية الأخرى، ستلقي بكامل ثقلها وراء المرشح الأوفر حظا في الوقوف أمام مرشح التيار الديني، الذي سيكون بالطبع المرشح المحسوب على أنه مرشح الدولة، هي لن تقبل على الإطلاق بأي مخاطرة أو ثغرة تسمح بقفزة جديدة للتيار الديني على منصب الرئيس مرة أخرى. ما الذي تبقى الآن…؟؟ هل تركنا شيء أو أهملناه…؟؟ يبدو أنه من التعسف والخطأ إهمال تلك الكتلة العائمة الحائرة التي تمثل كتلة وازنة في التأثير على التصويت، وهي كتلة لم تحسم اتجاهها والصراع الانتخابي يدور عليها بالأساس. في الحقيقية فإن نزول السيسي، بحضوره الكبير الكاسح، للانتخابات كان يمثل الراحة وطوق النجاة لهذه الكتلة العائمة، والتي تميل في غالبيتها الساحقة إلى التصويت للمرشح الأوفر حظا و الأكثر احتمالا للفوز، غياب السيسي يمثل معضلة لهذه الكتلة، لذلك فإنها في هذه الحالة ستعلق حكمها حتى أخر لحظة لتبين اتجاه الريح، و في غياب مرشح قوي قادر على الحشد والحسم، فإنها ستبقى مفتوحة للتأثير والتشتيت بين مختلف التيارات، بل إن جزء معتبر منها لن يشارك في النهاية، لأنها بطبيعتها تكره الغموض وعدم الوضوح والحسم. ثم ماذا بعد..؟؟!! إلى أين يقودنا هذا العصف الذهني لمحاولة قراءة الخريطة الانتخابية في حالة غياب المرشح "عبد الفتاح السيسي" عنها…؟؟ القارئ يستطيع أن يعدل في النسب والأرقام السابقة، فيخصم من هذه الكتلة أو يضيف إلى تلك، ولكن في النهاية، سنجد أن هذا لن يغير في النتيجة كثيرا، ففي كل الأحوال هناك بالأساس كتلتان رئيسيتان متبلورتان، أحدهما تلك الملتفة حول المرشح الذي سيحسب كمرشح للدولة و سيوصم بأنه مرشح لفلول نظام مبارك، والأخرى تلك الملتفة حول مرشح التيار الديني الذي ستدعمه جماعة الإخوان المسلمين بأقصى طاقتها، تلك هما الكتلتان اللذان سيدفعان بمرشحيهما إلى جولة الإعادة، ذلك ببساطة لأنهما الأكثر تنظيما و تركيزا و إصرارا، أما الباقي فهو مشتت ومنقسم حتى على ذاته. أي أنه، كما هو واضح، سيتم إعادة إنتاج نفس السيناريو الذي حدث في الانتخابات الرئاسية الأولى، مع حالة استقطاب أكثر حدة وتعسفا، في مجتمع أكثر استنزافا و ضعفا مما كان في الانتخابات الرئاسية الماضية…. والنتيجة في جولة الإعادة، بطبائع الأمور والأحوال، التفاف ما يسمى بالتيار الثوري حول مرشح التيار الديني تحت دعوي الخيار الديموقراطي وهدم الدولة العميقة واستكمال الثورة، ستغذيه حملة إخوانية، بدأت بالفعل منذ فترة ليست بقصيرة، تلتحف بالاعتذار والعفو عن ما مضى، مع تعهد واضح بالتكاتف والتحالف والنضال من أجل إسقاط الدولة، منبع الشرور والظلم و الطغيان….ذلك في مقابل التفاف مضاد لكل من لا يريد إعادة تجربة حكم التيار الديني مرة أخرى، مهما كان الثمن، لأنه يعني الضياع الثاني و الأخير لهذا الوطن. وأيا كان الفائز في النهاية، سواء هذا أو ذاك، فسنجد نفسنا أمام رئيس ينجح بأغلبية تدور حول الخمسين بالمائة، رئيس ضعيف سيبدأ الحشد ضده ومعه من أول يوم، وتتعمق الانكسارات والشروخ في سبيكة المجتمع المصري، تلك السبيكة الوطنية التي أرهقتها ممارسات طالت لأكثر من ثلث قرن و زاد من أجهدها ما حدث في الثلاث سنوات الأخيرة حتى أصبحت على مشارف التشقق والانهيار. من المعروف أن العقل الحديث يدعو إلى النمط العلمي في تفكيرنا السياسي أو بالأحرى في تفكيرنا الاجتماعي والوطني بشكل عام. الفكر السياسي بشكل خاص كنمط فكري في أوساط النخبة المصرية، فكر يتميز بالتبشيرية أي فكر ينطلق من رغبات ومشاعر وانفعالات وليس من إدراك موضوعي أو علمي للواقع الذي يتعامل معه أو من إدراك موضوعي أو علمي للظاهرة التي ينشغل بها. أستطيع أن أقول إن ثمانين بالمائة من النخبة المصرية تمثل أو تعكس هذا الخلل في تفكيرها ومن حسن الحظ إن هناك أقلية تفكر بشكل علمي أو تنفتح على هذا النمط عندما تراه وتتعامل معه. إن الطرح الذي يؤكد على أن ترشح السيسي يمثل إجهاض للمسيرة الديمقراطية التي دشنتها الانتفاضة الثورية في 25 يناير، فضلا عن أنه يمثل اختزال مهين لمعضلة تحقق النموذج الغربي للديمقراطية في مصر، فإنه قبل ذلك يمثل تجاهل تام لطبيعة المأزق الوجودي و موضع الجرف التاريخي العميق الذي تقف مصر على حافته الآن. وإذا كانت هذه النخبة تريد ان تغمض عينيها و لا تطل، و لو للحظة، لترى مدى عمق الهاوية التي نقف على حافتها، فإنها أيضا في نفس الوقت تتكلم بطريقة تبشيرية عن الديمقراطية وكأن الديمقراطية دستور، كأن الديمقراطية نوايا حسنة. وقفة قصيرة أمام بلدان العالم الثالث، لماذا أفلست الديمقراطية في هذه البلدان كلها تقريباً. مشوهة تماماً لماذا؟ هل لأن كلهم سفلة. يتآمرون على الديمقراطية. عندما تكون الديمقراطية مشوهة في الأكثرية الساحقة من بلدان العالم الثالث، إذاً هناك عطل أساسي بالواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، التاريخي لهذه البلدان يجعلها تمتنع على الديمقراطية الصحيحة. وعلى سبيل المثال قال جيفرسون: "الديمقراطية مستحيلة التحقيق لأنها تحتاج إلى كائنات مثل الآلهة" وجيفرسون هو أب الديمقراطية الحديثة ولكن أراد التحذير بأن الديمقراطية ليست مسألة سهلة، بل لها أوضاع موضوعية وأوضاع اقتصادية وأوضاع اجتماعية وأوضاع ثقافية وأوضاع تاريخية، إن لم تتوفر هذه الأوضاع، لا يمكن أن تتوفر ديمقراطية صحيحة. فهل كل الشروط، أو بمعنى أدق البنى، الاجتماعية و الثقافية والاقتصادية والأوضاع التاريخية اللازمة لتحقق الديموقراطية قد أنجزت كلها، ولم يعد يعوقها سوى ترشيح عبد الفتاح السيسي لمنصب رئيس الجمهورية…؟؟!!! سؤال موجه إلى النخبة و النشطاء. وهل مصر تستطيع ان تعيد انتاج دورة أخرى من التعايش مع ثلاثية رئيس ضعيف، و أجهزة الدولة محاصرة ومرتعشة الأيدي، وجماهير غاضبة تمزق في فورانها ما تبقى من روابط تشد بنيان هذا المجتمع فتتعمق انقساماته ويتفكك بنيانه إلى حد الانهيار والتداعي الكامل…؟؟!! سؤال أيضا موجه إلى النخبة والنشطاء. اليمن تم تقسيمه إلى ستة أقاليم، و من قبله انفصل جنوب السودان عن شماله، حتى هذا الشمال أصبح على حافة التقسيم هو الآخر، والعراق فعليا مقسم إلى ثلاث أقاليم، وليبيا عادت إلى حرب القبلية ضد القبيلة، و سوريا يشرعون في تمزيقها بالسكين، و لبنان على شفا حرب أهلية جديدة… ألا يكفي كل هذا كأجراس إنذار تكاد تصم الآذان من صخبها و دقها المتواصل…!!! نعم إن مصر هي الدولة العربية الأكثر منعة و امتناعا على التقسيم و التفتيت، و لكن لا يجب أن ننسى أنه منذ عام مضى فقط، رأينا محافظات القناة تطالب بنصيب خاص بها في دخل قناة السويس، و المحافظات السياحية، مثل الغردقة، تطالب أيضا بنصيب خاص لها في دخل السياحة، و أخيرا فقد رأينا محاولات من التيار الديني لفصل الصعيد عن مصر و إعلان حكومة أخرى منفصلة عن المركز في القاهرة، و نعيش الآن واقع اختطاف سيناء و محاولة جعلها إقليما منفصل يشكل قاعدة للجهاديين والتكفيريين… ألا يدعوا كل ما سبق للتوقف والتأمل فيما يحدث في بر مصر، و فرز و فهم الطبيعة الحقيقية للتحديات التي تواجه بنية الدولة المصرية ذاتها و التحركات التي تسعى لحصارها و ضربها في الأساس و عند الجذور…؟؟!!! سؤال أخر موجه إلى النخبة والنشطاء في مصر. في النهاية فإنه من الملفت بالفعل أن واشنطن تفضل عدم ترشح السيسي، وتحذر من أن "شعبوية" السيسي قد تطيح بالديمقراطية في مصر…!!! نفس المنطق، نفس الطريقة، نفس الأسلوب.