مرت بمصر حوادث طائفية عديدة، لكن لم يحزننى حادث مثلما أحزننى ما حدث يوم الأحد الدامى 9 أكتوبر 2011، ولو أننى لا أصنفه كحادث طائفى، بما أن الجانى فيه لم يكن المسلمون، ولكن كان جيش مصر يضرب فى أبناء مصر.. وهذا هو الجديد والفريد والمؤلم ! هالتنى وروعتنى مشاهد الجثث المشوهة بشكل غير عادي والمطموسة الملامح، أشلاء متناثرة، ووجوه مسطحة مستوية بالأرض، وتكسير تام فى كل العظام بل ومفصولة عن رأسها ! وذكرنى مشهد المدرعات وهى تسرع بلهفة القتل فى اماكن التجمهر خلف الناس بعربات الشرطة يوم 28 يناير الماضى. لكن أكثر ما هالنى، بل قتلنى قتلاً هو قطاع للأسف ليس بالقليل من المسلمين الذين لم يبدون أدنى تعاطف مع ما حدث، بل كان هناك تشفى ينم عن مرض إجتماعى خطير ظل ينهش فى العقول و القلوب حتى فسدت و تعطلت عن آخرها. ربما أجد لهم بعض العذر فى ظل تحريض استمر لثلاث ساعات عبر شاشات التليفزيون المصرى الذى أعادنا أيضاً لربيع ثورة 25 يناير من نشر بيانات أقل ما يقال عنها أنها مضللة، لكن هذه المرة (والمصيبة كونها بعد ثورة عمدت للتطهير فى كل المناحى) كانت جريمة التحريض على العنف والفتنة الطائفية متكاملة الأركان. لكن يظل المناخ الطائفى المتشدد الإقصائى الذى تجرعنا مرارته قطرة قطرة على مدى ربما أربعون عاماً هو البطل الحقيقى لهذه الكراهية والبغضاء التى ظل يرسخهما البترودولار الوهابي، بالإضافة إلى عاملين آخرين أساسيين هما الإعلام بكل أنواعه مرئى و مسوع ومكتوب، و أمن الدولة المتعاون تارة مع الإخوان وتارة مع السلفيين، لنكتشف أن مجموع كل ما سبق حولنا لمتعصبين ليس لدينا مقدار ذرة من تسامح أو تعقل. كان الدين فى مصر القديمة مرحلة لاحقة و أخيرة بعد إرساء البنية التحتية للحضارة والذى تمثل فى إستقرار المصريون على ضفاف نهر النيل وإكتشافهم الزراعة، و ذلك بعد نزوحهم من المنطقتين المعروفتين الآن باسم الصحراء الغربية والشرقية واللتان تصحرتا بفعل الجفاف وقلة المطر، وعلى ضفاف النيل تكونت العشائر المكونة من مجموعة من الأسر، وما تبعها من إغارات تطلبت تشكيل التكتلات، ثم بعد ذلك فكروا فى سن القوانين والشرائع، فظهر المحاربون و المشرعون و رجال الدين (الكهنة) وما يستتبع ذلك من مظاهر دينية من طقوس و مراسم و أُضحيات .. ومن يومها و مصر دولة متدينة بطبعها. لقد تقبلت وإحتضنت مصر على مر العصور الأديان المختلفة – كما الجنسيات المختلفة- بلا مظاهر تطرف أو عنف، فكانت، نظراً لحضارتها الراسخة، قمة التسامح مع الآخر، وهى الدولة الموحدة و المتدينة منذ فجر التاريخ، وهى الحضارة التى قامت على فكرة البعث و الخلود، وعلى الرغم من ذلك تقبلت فى وقت لاحق المسيحية ومن بعدها الإسلام، و التى رأتهما من حيث الروح والجوهر لا يختلفان عن ديانتها الأصلية أو مجموع الحِكَم والقوانين التى تحض على مكارم الأخلاق و التى نراها بوضوح فى “كتاب الموتى” حينما يُقسم المتوفى أمام الإلهة “ماعت” بأنه لم يقتل ولم يزن ولم يكذب ولم ينافق ولم يلوث النيل ولم يخدع أنثى ولم يمتنع عن قول الحق. بالمناسبة كلمة أقباط لا تعنى مسيحيون، ولكنها تعنى مصريون، وهى تحريف للكلمة المصرية القديمة “إي كو بتاح” أى معشوقة الإله بتاح، أى مصر. وإذن كلنا أقباط. لقد صلى عمر بن الخطاب بالقرب من مدخل كنيسة القيامة وليس بداخلها كى لا تتحول لمسجد، و أنشىء جامع أبو الحجاج بجوار معبد الأقصر، و فى الدولة المملوكية، أتى “الناصر محمد بن قلاوون” بجزء من مدخل كنيسة فى عكا التى فتحها “الأشرف خليل بن قلاوون” فى إحدى الحروب الصليبية ليزين به مدخل المسجد والمدرسة المعروفان باسمه فى شارع المعز بقلب القاهرة القديمة، بل أن مسجد “آلتمبغا الماردنى” زوج إبنة “الناصر محمد بن قلاوون” والذى شيده الأخير حباً وتقديراً له بعد أن توفى فى ريعان شبابه، عواميده خليط – لم يخلو من سيمترية رائعة- من الجرانيت الوردى المتوج بزهرة اللوتس والذى ينتمى لمعابد فرعونية وأخرى من الرخام الأبيض الذى ينتمى لمعابد رومانية. أى كان هناك فى هذا الوطن تبادل حضارى وتسامح دينى بلا حدود، يتساوى فيها المعبد الوثنى بالكنيسة المسيحية بالمسجد الإسلامى، فكلها بيوت لله الواحد. وفى منطقة مصر القديمة وتحديداً فى مجمع الأديان نجد جامع عمرو بن العاص بجوار الكنيسة المعلقة بجوار معبد بن عزرا، وقد كان هناك طقساً متبعاً فى الدولة الفاطمية حال تأخر الفيضان، فيه كان يخرج على ضفاف نيل القاهرة كوكبة تشمل الحاكم ومن وراءه شيوخ المسلمين، ومن بعدهم القساوسة المسيحيين و أخيراً أحبار اليهود، وكان المسيحيون فى أعيادهم يستعيرون الشمعدانات و البُسُط من المساجد والعكس صحيح فى أعياد المسلمين. لقد ظلت مصر مكاناً تتجمع وتتقارب فيه الديانات بلا تطرف مجنون وخطاب إقصائى مشبّع برائحة خليجية صحراوية. دعونا نتكلم بصراحة و لو لمرة واحدة فقط علّنا نقتلع السرطان الذى عشش و إنقسمت خلاياه بسرعة جنونية فى عقولنا وقلوبنا. لا أحد يستطع إنكار أن الدين فى مصر وراثى، بمعنى أنك ولدت مسلم لأنه تصادف أن أبويك مسلمين، أو أنك ولدت مسيحياً لأنه ببساطة شديدة والديك مسيحيين، وليس لدينا هنا حرية إختيار الدين أو تغييره كأوروبا وأمريكا رغم أن الإسلام يمنح الإنسان حريته الكامله ويعطيه هذا الحق (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ومن ثم سوف يحاسبه على إختياراته، وإلا فما معنى أن الله هو الحق والعدل؟ فكون أى فصيل يتخيل أنه أفضل من غيره، فعليه أن يعلم أنه لا يمتلك أى فضل، وهو مخطىء لأن الله وحده هو الذى سوف يحاسبنا جميعاً، وهو وحده المطلع على القلوب و الأفعال فى السراء والضراء، وهو الذى سوف يرحم من يشاء و يعاقب من يشاء، وعلى الفصيل الذى يتخيل أنه ضمن شعب الله المختار أن يعلم أنه بذلك يشارك الله فى إحدى صفاته، ويتقوّل بما لا يعلم. فمثال العاهرة التى دخلت الجنة بسبب كلب أسقته ماءاً، ومثال الرجل المعتكف فى المسجد والمنقطع للصلاة والتعبد، وأخيه الذى يعمل و ينفق عليه و كانت مكانته عند الله أفضل منه، أكبر دليل على أن الله لا يأخذ بالمظاهر التى لا نحكم سوى بها نحن البشر، و لكن بالمعاملة الإنسانية و إعلاء قيمة العمل، إلى آخره من القيم العالية التى هى روح الإسلام الحق. لماذا يعيب المسلم ويستنكر ويبغض اليهودى الذي تحض ديانته على سفك دماء “الأغيار” ، بمعنى كل من يعتنق أى دين مخالف لليهودية، و إعتبارهم أقل منزلة من اليهودى الذى ميزه الله دوناً عن غيره، بل أنه يساويهم بالحيوانات، وهو ينهج نفس النهج مع أخيه المسيحى؟! يقولون أن كنيسة الماريناب ما هى سوى مضيفة، وأنا أقول أن هناك آلاف الزوايا التى تقام أسفل العمارات السكنية وتسمى مساجد، السواد الأعظم منها ليس خالصاً لوجه الله، وإنما هرباً من ضريبة العوائد. يقولون أن بناء الكنائس تؤذى مشاعر المسلمين وأنه فى حالة الموافقة على بنائها يجب مراعاة عددها مقارنة بالكثافة السكانية ونسبتها فى المنطقة التى يتم البناء فيها، وأنا أقول أن بناء مليون كنيسة لا يهدد كيان الدين الإسلامى القوى العظيم، ولا يزعزع قيد أنمله إيمان مؤمن قوى مستمسك بدينه. إن عدد الكنائس التى تم حرقها أو هدمها على مدار سبعة أشهر رقماً غير مسبوقاً، رغم معرفة السلطة بالجناة (كنيسة أطفيح على سبيل المثال تم هدمها فى أربع ساعات كاملة وتم تصوير الجناة)، فبتنا ننام ونصحو كل فترة قصيرة على حادثة من هذا النوع، يقابلها تقاعس عمدى من السلطة ! والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة ماذا أنت فاعل أيها المسلم لو كان ما يتم هدمه بكل كد و دأب وتعمد مسجداً ؟ بل ماذا يكون شعورك حيال سلطة من هذا النوع، لا تطبق القانون وتتبنى بعنف مبدأ التمييز ؟ ضع نفسك أيها المسلم العاقل الرشيد مكان شخص يُصفع يومياً من أحدهم، وبدلاً من أن يتخذ ردة فعل عنيفة مقابل ما يواجهه، يظل متحاملاً على نفسه، متحملاً الإهانة مراراً وتكراراً عسى المهاجم أن يرتدع، لكن بلا جدوى، وفجأة ينفذ مخزون الصبر والجَلَد لديه ويقرر أن يتمرد بالصراخ .. فقط الصراخ .. أن يجرؤ لأول مرة على أن يقول آآآآآآآه. فما مدى جرمه فى رأيك؟ إن المشكلة الحقيقية أننا لم نعتد من المسيحى الصراخ، فقابلنا شكواه المشروعة بالإستنكار والترويع و ربما القتل. شاهد عيان أتى بالأمس (10 اكتوبر) فى برنامج يسرى فودة “آخر كلام” على قناة “أون تى فى” قال أنه شاهد جثة مشجوجة الرأس بسيف، وقبلها رأى بأم عينيه حشود من المواطنين أتت من بولاق أبو العلا حاملين السنج والسيوف فى طريقهم للإعتداء على المسيحيين المتظاهرين، و يؤكد أن إصابة هذه الجثة لا بد أنها إصابة أتت من أحدهم وليس من الشرطة أو الجيش! إن المسلم الذى تخيل أنه يهُب لنصرة الإسلام والدفاع عن الجيش كما أوهمه الإعلام المضلل المحرض على الفتنة، والذى قتل مسيحياً متظاهراً لا يفعل شيئاً سوى المطالبة بحقه المشروع، لا يعلم أنه ربما قتل أخيه الذى تربطه به صلة الدم ! فحينما دخل الإسلام مصر، تحول أفراد من العائلة الواحدة إلى الإسلام، فى حين ظل البعض الآخر من نفس العائلة على دينه، وعلى سبيل المثال وليس الحصر أذكرعائلة “قللينى”. لقد كان للمسلم فى رسول الله أسوة حسنة، وقد كان يعامل اليهودى، ولا أقل المسيحى، بسمو أخلاق ونبل نفس، وذلك من خلال حكايته الشهيرة مع جاره اليهودى الذى كان يلقى بقمامته يومياً أمام بيت رسول الله ولم يبادله الرسول الإساءة، وفجأة إنقطع الرجل عن هذه الفعلة، فتعجب الرسول وقرر زيارته، فوجده مريضاً، فاطمئن على حاله ولاطفه بالكلام ! الأديان كلها في الأصل دين ربَّاني واحد قائم على العقيدة والشريعة والأخلاق، وهدف الدِّين في أساسه هو إعطاء الإنسان المنهاج القويم يتخذه لنفسه ليسعد في دنياه وآخرته، لذا تبدَّلت الأشكال في قوالب الشرائع، وتوحَّد المضمون، قال تعالى في كتابه العزيز: [شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] (سورة الشورى – الآية 13). وعقيدة المسلمين هى الإيمان بأنبياء الله جميعا، وبالكتب المنزَّلة عليهم، قال تعالى في كتابه العزيز: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُسُلِهِ](سورة البقرة – آية 285). والدستور الذي شرعه الله للمسلم في القرآن الكريم في كيفية التعامل مع معتنقي الديانات الأخرى هو الدستور العدل، إذ يأمره بحسن معاملتهم ، قال تعالى: [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (سورة الممتحنة – آية 9). ومما تقدم يتضح لنا بجلاء إلى أي مدى يعتبر التسامح الدينى من العناصر الأساسية في تعاليم الإسلام. ومن هنا فإن التزام المسلمين بذلك وحمايتهم لحقوق الانسان والجماعات المتنوعة وأتباع الديانات الأخرى الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية أمر يدخل في إطار التزاماتهم الدينية التي تقضي بالحفاظ والدفاع عن الحقوق الإنسانية العامة للجميع. الإسلام دين عالمي يتَّجه برسالته إلى البشرية كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم وترسي دعائم السلام في الأرض، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جو من الإخاء والتفاهم بين كل الناس، بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم، فالجميع ينحدرون من “نفس واحدة”، ووطننا اليوم في أشد الحاجة إلى التفاهم الفعال والتعايش السلمى بين الناس أكثر من أي وقت مضى والإتحاد أمام الجحافل الغاشمة من الفلول بما تملكه من مال ونفوذ وبلطجية ترعرعوا فى كنف أمن الدولة وتم إطلاق سراحهم من السجون، إندسوا ليفسدوا وقفة المسيحيين السلمية كما أفسدوا مليونية 9 سبتمبر، ليكره المواطنون الثورة التى أشاعت الفوضى. هم يوجهون طعنات مميتة فى قلب الوطن المجروح أصلاً، ولم يكفهم ما فعلوه طيلة 30 عاماً من نهب وتنكيل وبطش وتجويع. تذكر مشهد المسيحييين حينما كانوا يسكبون الماء ليتوضأ المسلمون فى ميدان التحرير فى ربيع ثورة يناير، و حماية ظهورهم لحين إنتهائهم من الصلاة، تذكر ضابط الجيش المسيحى (ماجد بولس) الذى كان يدافع عن الثوار ضد البلطجية أيضاً فى بداية الثورة. فلنتذكر جميعاً الثمانية عشر يوماً الأولى للثورة وتجلياتها التى أظهرت المعدن الحقيقى للشعب المصرى المتحضر فى تجمُع جميع الفصائل والطبقات الإجتماعية على إختلاف إتجاهاتها الفكرية والسياسية والعقائدية، كنا نسيجاً واحداً متيناً أصيلاً، كنا نحن المصريون الحقيقيون .. كانت مصر الحضارة التى رحبت واستقبلت واستوعبت كل الأجناس والديانات قبولاً حسناً، و ما دون ذلك من أهوال ومصائب حدثت بعد تاريخ 11 فبراير وحتى الآن دخيلة و مقصودة ممن يريدون حرق هذا الوطن بدم بارد. الدين لله و الوطن للجميع.