إذا كانت الثورة تَعِي نفسها على وجه الحقيقية؛ فإنَّها – بالقطع- تتطلب قدرًا من الغفلة لدى جماهيرها، غفلةٌ ساحرةٌ تَشفُّ ولا تُبْهِمُ ، وهي ليست حدثًا قابلاً للاجتزاء من سياقاته السابقة واللاحقة، إنَّها مسيرٌ شاقٌ كُوِّن بعناية حتى صار كُلاً صلبًا يعتمد صرامةَ المواجهة وجاهزيةً تامَّةً لمتطلبات الصراع. وهي بقدر ما تمثله من مسارٍ جديدٍ، لا تعدو كونها حنينًا جارفًًا للمسار الأصلي الذي طُمِرَ بفعل تحولات السلطة السياسية والمشهد الاجتماعي والتدخلات الدولية. إنَّ الثورة هي استدعاء لتراكمات الغضب والإحباط والعداوة بقصد إحداث حالة من الرضاء العام والأمل وإنهاء الخصومة، وهي التي بفعل الموت تنتصر للحياة ، مقدمةً نماذج من البشر تحب الحياة بأكثر مما أحبت ذواتها؛ لذلك فإنَّها- أي الثورة- القادرة على خلق الأشياء من نقائضها؛ وهذا ما يجعلها عسيرة على ( المَفْهَمة) ، أي أن تكون داخلةً ضمن إطار مفاهيم محددة؛ ولا يكون ذلك لانعدام القدرة على سبر غورها؛ بقدر ما يكون بسبب ما لها من قدرة فائقة على التجدد والاحتيال والتماهي من أجل أن تظلَّ باقيةً عصيَّةً على التجاوز؛ وكأنَّها كائن حي، لا..إنها – بالقطع- كائنٌ حي. ومكمن الحياة هنا هو التجاوز الفارق لليأس في لحظة تمامه ، بالمباغتة في أجلى صورها، بالمبادرة الحاسمة التي تفجأ بالفعل الثوري الذي يظل لفترة متأبيًا على التصديق باكتمال ملهم ورغبة متنامية في اعتلاء ذروة سنام الأنفس التي أرَّقها التردد، فارتضت بالحسم على ما به من مخاطرة شائقة. من أجل ذلك نقول أنَّ الثورة لا تُصنع ولا تُلوَّن ولا تستعير أثمالا ، ولا تتزيا بغير حقيقتها؛ ذلك لأنَّها إسقاطٌ لكل دعاوى المبطلين. وإذا أردنا أن نمسك بالثورة متلبسة بالوضوح؛ فإنَّ علينا أن نرقب تلك اللحظة التي تصبح فيها المبادئ التي أنتجتها أفكارنا الحالمة ملائمة للتحقق بشكل جزئي على أرض الواقع، أي أنَّ الثورة هي ذلك المتولد بقوة دفع هائلة عن تماسٍ حرجٍ بين الحالم والمتحقق؛ بحيث يسمح هذا التَّماس باندلاع وهج يذيب أعدادًا كبيرة من البشر في كتلةٍ واحدةٍ تتحرك بحمَّى الانعتاق من كل أسر قديم بشوق بالغ للتحرر-ربما- يصطدم فيما بعد بأول أنسام الحرية ، فشتان بين التحرر كفعل إرادةٍ إنسانيةٍ تواقةٍ جسورةٍ، والحرية في مفهومها المستقرالمحدد الذي يلتزم عديدًا من الضوابط، ويخضع لكثير من الاعتبارات ، من بين هذين المفهومين تطل الثورة – مرحليًا- كحالة من الفوضى تلتزم الهدم ولا تُعْنَى بالبناء! والثورة لا تحدث القطيعة مع النظام الاستبدادي الغشوم، بقدر ما تكون استجابة مباشرة لهذه القطيعة التي ُكرِّسَت عبر أمد من القهر طاف بأناس أوشكوا على الانسحاق ، فإذا هي مصورةٌ في حقيقة الأذهان معجزةٌ كبعث الرماد. وليست الثورة فعلاً أخلاقيًا كاملاً – كما يحب البعض أن يدَّعِيَّ- بل إنَّ الفعل الأخلاقي الكامل؛ يصبح – في أحيان كثيرة- مُهَدِّدًا للثورة؛ حتى أنَّها لا تستنكف أن تلقم نارها بعض أبنائها من أجل أن تكتسب قدرة أكبر على مناوءة أفانين إجهاضها أو الالتقاف عليها، كونها تستوجب المراجعة الدائمة والقراءة المدققة للواقع؛ فالثوري الحالم لايجب أن يصرَّ على التحليق مجددًا بعد أن مسَّت قدماه الأرض، وإلا صار منبت الصلة عن الثورة نفسها، محتجزًا بإرادته في تلك الفجوة الضيقة التي نفذت منها الثورة بسرعة خاطفة، هنا يصبح الحالمون عبئًا على الثورة، لا مفرَّ من التخفف منه. ذلك لأنَّ الثورة في تحققها الأول تكون أوسع من أن تنحصر في تصورات البعض عن عدد من المفاهيم المتعلقة بها، إنَّها- بطبيعتها- تحمل تشككًا في الكل، وفيما يروجون – باسمها- من شعارات تنحو إلى مثالية مدَّعاة ، أو تنزع إلى مواءمةٍ مُغْرضةٍ بينما هي في اصطدامها الأول قد أدركت ضرورات الواقع، وعجز الطبل الأجوف عن أن يملأ فضاءها الرحب. إنَّ الثورة لا تخضع للأهواء، فهي – بالأساس- ضد الخضوع، وهي تمارس مع الجميع إرغامًامستغنيًا، حتى أنَّها في مرحلة ماتندفع بذاتها دون قيادة ودون ثوَّار ، وهذه حقيقة ناصعة على غرابتها، ثورة بلا ثوَّار تُحْكِم حزم الموقف في اجتيازٍ حذرٍ لعتبةٍ هي الأصعب! وإذا تصوَّر البعض أنَّ الثورة إنَّما هي قفزة نحو المجهول؛ وهذا ما يجعلها فعل مراودة مريرة قبل أن تكون قيد التحقق، إلا أنَّ الارتكان الكامل لهذا التَّصوُّر، لا يمكن أن ينتج شيئًا ذا قيمة؛ ذلك لأنَّ الثورة تتخلق كمغامرةٍ غير محسوبة؛ لكنَّها واضحة الأهداف، محددة الوجهة، تشق مسارها بقوة، مخلفة وراءها ركامًا من الحسابات، قد يشكِّل تيهًا لكل من لم يستطع السير في مسارها العميق. وإذا كانت الثورة في اندفاعها لا تلقي بالاً للمتساقطين على طريقها ممن كانوا يومًا من أبطالها، فإنَّها لا تتسامح مع أعدائها؛ بل تنصب شِراكها لاصطيادهم واحدًا تلو الأخر ، وجماعة في إثر أخرى، فهم- في نظرها- فضلاتٌ تاريخية، يثيرون بعض الضوضاء ويأملون في إعادة المسار البائد الذي طمرته الثورة؛ بل يعملون على ذلك بما أوتوا من قوة، والحقيقة أنَّ هؤلاء لا يعادون الثورة بوصفها فعلاً جماهيريًا هادرًا زلزل أركان نظامهم المتآكل ، بقدر ما يعادونها لأنَّها أوقفت قدرتهم على الاستغراق في أوهامهم وفاجأتهم بحقيقة كونهم كائنات وضيعة غير مؤهلة للعيش في بيئة جديدة لا يمتلكون أدوات التفاعل معها ، وليس في إمكانهم تحقيق نجاح يذكر في ظلها؛ إنَّهم تلك الفئة التي تلتصق بأي سلطة كالقراد، لايجمعهم شيء بقدر مايجمعهم كونهم عالة يسعون – دائما- لأن يتكففهم أصحاب السَّطوة ، ليس لهم ميزة سوى أنَّهم يقبلون بفعل أي شيء في سبيل أن يكون لهم تواجد ، ولتجدنهم أحرص الناس عليه مهما بلغت حقارته، لذلك فهم يعكفون على إعادة شق هذا المسار الخرب، لكنَّ الحقيقة أنَّ هذا المسار لن تجري فيه المياه مجددًا، فقد تم تحويل المجرى نحو المسار الجديد، ويصبح كل جهد في هذا الاتجاه هَدْرًا بائسًا يناوئ حركة التاريخ،التي امتُلِكَت بفعل إرادة الشعب التي هي من إرادة الله ، قدَّرها بقدرها على سبيل التحقق ، لاعلى سبيل العبث. وليس أؤلئك فحسب من تذهب بهم الثورة بعيدًا عن أوهامهم، بل إنَّها تترصد بحذر تلك القوى الانتهازية الحارسة لقيم الرجعية والتي أدمنت فعل التَّحيُّن لميلادها، بمعزل عن الإيمان بها أو العمل من أجل صيرورتها إلى الوجود المتحقق؛ تلك القوى التي تشكلت في المجتمع بفعل تهرُّؤاته وأزماته ، كبثرات ما لبست أن تحولت لأورام خطرة ، أسهمت في إنهاك المجتمع بتغييبه وخداعه تارة بعد أخرى، و هؤلاء بطبيعة الأمور يكونون ذوي قدرة هائلة على اجتناء الثمار واغتنام الفرص بصورة تصيب الجميع بالحسرة، لكنهم ما يلبثوا- بفعل انفصالهم عن بيئتهم الأصلية وأطماعهم غير المتعقلة- أن يصبحوا من ذكريات الثورة الأليمة. وتظل الجماهير العريضة بآمالها الراسخة في الحياة الكريمة، مدركة بالحس ما لا تدركه طليعتها بالعلم والمعرفة؛ قابضةً على ذلك اليقين الخفي ، ترى في متناقضات الثورة حقيقة القدرة الكامنة في عقولها على التغيير، مستلهمةً دروسها ومرحليتها وتجددها، وقابليتها الفائقة للتشكل وصولاً إلى مراميها، عبر رحلة تسفر في رؤيتها الناصعة عن جوهر الثورة الكامن في طبيعة الإنسان.