حقيقة فإن من لم يُعرف فضله في حياته فالحوادث بعد مماته كفيلة بتعريف الناس بفضله وقيمته، وهذا بالضبط ما حدث مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر (15 يناير 1918 – 28 سبتمبر 1970) الذي ولا شك يكسب أرضًا جديدة وهو في قبره كل يوم، وليس أدل على ذلك من حضور صورته بقوة في انتفاضات وثورات الشعب المصري في 18 يناير 1977 و25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، حتى يمكن القول بأن الميادين التي شهدت تلك الفعاليات وعلى رأسها ميدان التحرير خلت من صورة أي زعيم أو قيادة تاريخية سوى ناصر، وهذا يعكس حضوره الطاغي بتجربته النبيلة وتجسيده لقيم الفروسية والكرامة والتقدمية على من سواه رغم غياب قارب الأربعة والأربعين عامًا. ولاجدال في أن الملايين التي خرجت تودّع جمال عبدالناصر في جنازته، ونجحت الآلة الإعلامية في ما بعد في التأثير على عدد منهم وتشويه صورة الزعيم الخالد ومشروعه لديهم، استعادت كثيرا من وعيها بقيمة الرجل بعدما ظهر الراحل "أنور السادات" على حقيقته كحاكم ينحاز ضد مصالح شعبه من الفقراء وومحدودي الدخل وكقائد سياسي على إستعداد للتفريط في إستقلال بلده وكرامتها بتسليمه 99% من أوراق اللعبة إلي أمريكا، فكان ناصر ومشروعه هو الجدار الصلب الذي استحضره الشعب وأستند إليه في مواجهة السادات وسياساته المنبطحة في السبعينات، وعندما توحّش نظام "محمد حسني مبارك" في العشر سنوات الأخيرة من حكمه، بحضور نجله جمال في الصورة وإطلاقه العنان لطبقة رجال الأعمال لنهب ثروات الشعب، وإنتقال مصر من دور التابع للبيبت الأبيض إلي دور الجندي المطيع والمنفذ لأغلب الأوامر، فكان عبد الناصر ومشروعه الملاذ الذي فروا إليه واستدعوه عبر صورته وكلماته ليقود المشهد في يناير 2011 وما سبقه من أحداث، وتكرر الأمر بعد وصول مندوب جماعة الإخوان "محمد مرسي" إلي الحكم، وكان هذا عن حق كفيلاً برد الإعتبار كاملاً للرجل في قبره، فالجماعة التي أدّعت المظلومية طوال تاريخها واختصمت ناصر ونسبت إليه كل نقيصة، تعرّت تماما أمام الرأي العام عندما وصلت للسلطة وأثبتت الحوادث ضعف قادتها وجهلهم وعمالتهم، ومن هنا كان من الطبيعي ان يلجأ معارضوها إلي ناصر ومشروعه وجيشه ودولته لمواجهتها. وما نتمناه في هذا السياق أن يظل عبدالناصر ومشروعه السياسي والإجتماعي حاضرًا بقوة في جميع الأوقات، وأن لا تستحضره الجماهير والنخب عند وقوع الأزمة ومواجهة نظام حاكم فاسد وعميل، ثم يغيب عند إستقرار الأمر في ما بعد، ف "ناصر" لا يختصر في صورة ترمز للثورة والكرامة، وإنما يتسع إلي مشروع متكامل – خاضع ولا شك للنقد والتنقيح فيما لا يتعلق بالثوابت – يضمن عدالة إجتماعية حقيقة وكرامة وإستقلال وطني وديمقراطية إجتماعية ودولة مؤسسية متماسكة تمهد لديمقراطية سياسية محمودة لا تسير بالوطن إلي الهاوية.