الفنان السوري دريد لحام الذي كان ممثلا كوميديا سابقا لم يجد ما يقوله في ذكري ثورة 23 يوليو إلا أن يلقي باللوم علي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ويقول ان دولة المخابرات وتزوير الانتخابات زرعها الرئيس المصري جمال عبدالناصر في قلب الانظمة. ودريد لحام في حديثه لمجلة نيوز ويك النسخة العربية لم يفته بالطبع ان يرتدي ثوب السياسي والمناضل والمحلل والفيلسوف ايضا وأدان كل الانظمة العربية ولم ينج من انتقاداته إلا حزب الله اللبناني الذي يصفه بالمقاومة اللبنانية ويقول ان هذا الحزب لم يطلق أية رصاصة باتجاه أي لبناني والتخويف من حزب الله هدف انهاء أي قوة مقاومة أو ممانعة في المنطقة وحول إسرائيل. ودريد لحام من حقه ان يقول ما يقول في حدود معلوماته وثقافته ورؤيته كفنان يجب أن يحترم رأيه مهما كانت درجة الاختلاف معه فالكثير من مواقفه وأعماله الفنية تؤكد ان للرجل مواقف مستقلة ذات بعد سياسي إصلاحي ناضج وأنه استطاع من خلال عدة أعمال فنية بارزة ان يعكس صورة واقعية للأوضاع العربية من الداخل. ولكن الحديث عن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر واتهامه بانه زرع دولة المخابرات في قلب الانظمة العربية وزور الانتخابات فيه الكثير من التجني والافتراء علي عبدالناصر ومحاولاته لايجاد واقع عربي جديد. فالذي كان في مفهوم وفكر عبدالناصر وسعي إليه أمر يختلف كثيرا عما حدث في بعض الدول العربية التي حاولت تجنب رياح التغيير التي كان عبدالناصر يقودها وسايرته من الظاهر تجنبا للاصطدام به ولكنها في الداخل أقامت أنظمة قمعية بوليسية تنفذ سياسات أخري غير المعلنة. فالرجل الذي كان ينادي ويطالب ب"ارفع رأسك يا أخي" لم يكن ليؤمن أبدا بأن تكون هناك دولة مخابراتية داخل الدولة تطيح بهذه الرؤوس أو تعمل علي اخضاعها مرة أخري وكان مفهومه في ذلك واضحا انعكس في دفعه لقطاعات العمال والفلاحين إلي المقدمة وتمكينهم سياسيا من أن يكونوا قوة ذات تأثير مع إعطائهم جميع الحقوق. والرجل الذي حرر الفلاحين من الاقطاع وجعل العامل سيد الآلة بعد ان كان عبدا لها هذا الرجل ما كان في حاجة الي ان يفعل ذلك لو انه كان يسعي لدعم سيطرة ونفوذ المخابرات والأمن. وما حدث ونتفق مع دريد لحام في ذلك هو أن عبدالناصر كان يحلق في احلامه ومشاريعه القومية وافكاره التحررية وصراعه مع اسرائيل وترك الساحة الداخلية في أيدي انتهازيين ثوريين حولوا شعارات ومبادئ الثورة الي مكاسب ومغانم واستعانوا في ذلك بالأجهزة البوليسية والمخابراتية لحماية وتعديم هذه المكاسب والامتيازات. وفي سبيل ذلك استطاعوا اقناع عبدالناصر بأن هناك أعداء للثورة وانهم ليسوا ضد الشعوب ولكنهم يقفون ضد أعداء الثورة في كل مكان. وكان خطأ عبدالناصر هو أنه صدق هذه الأكاذيب والمؤامرات الوهمية التي كانوا يحيكونها واعتقد فعلا ان ثورته بحاجة الي حماية وان وجود هذه الأجهزة ضروري ومهم. ولكن لا يمكن القول بأن عبد الناصر هو الذي زرع دولة المخابرات في الأنظمة العربية وتحميله مسئولية ذلك لأن ما قام به عبدالناصر كان جليا في تحرير هذه الأنظمة من الاستعمار الغربي والحكومات العميلة وترك هذه الدول لشعوبها تقود عملية البناء بعد الاستقلال طبقا لظروف كل دولة وواقعها الاجتماعي والسياسي. وفي الكثير من الدول العربية التي استقلت لم يكن ممكنا تطبيق التحول الديمقراطي السليم لأن التكوين العشائري والقبلي والطائفي والمذهبي في هذه الدول كان كفيلا باشعال حروب اهلية فيها ان هي تركت دون سلطة مركزية قوية. ولم يكن ممكنا ان يتدخل عبدالناصر في تكوين هذه الدول من الداخل وإلا اعتبر ذلك هيمنة ووصاية وتبعية في وقت كانت فيه شعارات التحرر والسيادة الوطنية هي السائدة والمنطلقة في كل مكان. وكواحد من الذين يؤمنون بوطنية وتطلعات عبد الناصر ويقفون في الوقت نفسه معارضين لما يسمي بالناصرية أو اعادة احياء فكر عبد الناصر فإنني أري أنه من الظلم تحميل عبد الناصر أخطاء وسلبيات الأنظمة العربية التي ماكان يمكن أن تترك الخيار الكامل لشعوبها لتدار بديمقراطية أو شفافية سواء كانت الأنظمة تدور في فلك عبد الناصر أو تتظاهر بذلك أو تعاديه. فقد رحل جمال عبد الناصر عن دنيانا منذ أكثر من 37 عاما ومع ذلك مازال الوضع في العديد من الدول العربية كما هو عليه، فهل سيتم تحميل عبد الناصر وهو في قبره مسئولية ذلك أيضا، أم أن البعض سيظل في حالة بحث عن الثأر التاريخي من عبد الناصر لقرون قادمة. أما الحديث عن الإنتخابات المزورة التي يشير إليها دريد لحام وإلقاء المسئولية علي عبد الناصر فأنها مقولة لن نتوقف عندها كثيرا لان الكل علي قناعة بأن عبد الناصر لم يكن في حاجة إلي تزوير إنتخابات أو استفتاءات فشعبية ناصر الطاغية كانت كفيلة بأن يقول له شعبه "خض بنا البحر ونحن نتبعك" وإذا كان هناك عدم اهتمام كبير في تلك الفترة بأرقام وبيانات الإنتخابات فربما لأن القائمين عليها لم يتعاملوا معها بجدية من منطلق أن هناك تفويضا شعبيا واضحا من الشعب لناصر بأن يفعل مايريد. ونحن لذلك حين ننتقد عبد الناصر بشكل أعنف مما قاله دريد لحام فإن انتقادنا مبني علي أساس أن الرجل الذي كانت له كل هذه الشعبية وكل هذا المجد.. وكل هذا التفويض والتوقيع علي بياض، كان يجب ان يكون هو من يقودنا نحو الحياة الديمقراطية السليمة وأن يحقق العدالة الإجتماعية ويطبق مباديء حقوق الانسان لانه لم يكن هناك ضمانة لنجاح هذا التحول بسلاسة ودون هزات أكثر من ضمانة وجود عبد الناصر علي قمة الهرم السياسي. كان ممكنا لعبدالناصر أن يدخل فعلا تاريخ العظماء عبر كل القرون لو انه قاد بعد حركة التحرر القومي في العالم العربي حركة التحول الديمقراطي السليم.. ولو فعل ذلك ما كنا قد وقعنا تحت قبضة الإرهاب ومطرقة جورج بوش! [email protected]