التصعيد الزائد من جانب تركيا ضد مصر يزيد الأوضاع تعقيدا، وقد كانت أمام رئيس الوزراء التركي فرصا مواتية ليلعب دورا فعالا في التهدئة بعيدا عن التصعيد وعاملا على التخفيف من وطأة ما يجري وحدته. خاصة أن وضع تركيا الداخلي ووزنها الإقليمي ليس في أحسن حالاته، فروسيا الاتحادية عادت إلي المنطقة من البوابة المصرية، ووجود رئيس جديد في طهران أثمر اتفاقا مع واشنطن حول البرنامج النووي، ونزع فتيل الحرب ولو مؤقتا، وخف بذلك الضغط على خط إيرانسوريا حزب الله، وكل هذا وغيره يضغط على الأعصاب التركية، وإذا أضيف إلى ذلك ما أصاب العلاقات الأمريكية السعودية من فتور، أثر على الملف السوري، بسبب التناقض بين التشدد السعودي والرخاوة الأمريكية وهذا أربك الحلف المعادي لسوريا، وقد كان يتعجل توجيه ضربة أمريكية تطيح بحكم بشار الأسد، وخلق ارتباكا عكس نفسه على مجمل الأوضاع التركية الداخلية والإقليمية. وكانت آخر صور التصعيد هو ‘استضافة' اسطنبول لمؤتمر الحركات والائتلافات الطلابية الإخوانية، سعيا لتدويل ما وصُف ب'انتهاكات السلطات المصرية في حق طلاب التنظيم'. وهذه ‘الاستضافة' واكبت حملة شرسة قادها وتولاها رجب طيب أردوغان، ضد السلطة الانتقالية في القاهرة، هذا مع العلم أن أغلب المصريين لا ينزعجون من وصف الأتراك لثورة 30 يونيو ب'الانقلاب'، وقد اعتادوا على ذلك من الأتراك تحديدا، فسوابقهم معروفة ضد ثورة 1952، ولم يعطل وصفهم لها ب'الانقلاب' مسيرتها، انطلقت بتأثيرها فتجاوزت حدود مصر ليصل إلى كافة أرجاء المعمورة، وما زال الطعن فيها يُقدم ضمن أوراق القبول المطلوبة من الراغبين في الالتحاق بالمنظومة الصهيو غربية. كانت الثورة تعني في الأدبيات الصهيو غربية المروق، وهي مرادف للفتنة عند جماعات وفصائل الإسلام السياسي، وعلى هذا صيغت أدبيات جماعة الإخوان المسلمين بجناحيها البَنّاوي (نسبة إلى حسن البنا) والقطبي (نسبة إلى سيد قطب)، وطبعت أفكارها؛ برع الجناح الأول في المناورة والمراوغة، والتغطية على الجرائم المقترفة من جانب المنتمين إليه، وكانوا يتراجعون ويكمنون عندما يكون رد الفعل أقوى من قدرتهم على التصدي؛ حدث هذا عقب اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، الذي ترتب عليه حل الجماعة، وحدث شيء شبيه به بعد محاولة اغتيال عبد الناصر. وكانت تركيا وقتها على صدام دائم بمصر، وحملت على عاتقها هدم مشروع نهضتها المعاصر، وكانت من مؤسسي حلف بغداد في 1955، ومهمته الأولى تعويق مصر وحصارها، وجاء ذلك الحلف تلبية لرغبة أمريكية، وضم بريطانياوالعراقوتركياوإيران وباكستان، ولما ثارت بغداد في تموز/ يوليو 1958خرجت منه وتغير اسمه إلى ‘الحلف المركزي، وانتقلت قيادته إلى أنقرة، وأولته الإدارة الأمريكية اهتماما خاصا وحرصت على المشاركة في اجتماعات لجنتيه العسكرية والاقتصادية بانتظام. وكان الجناح الثاني (القطبي) وما زال مباشرا ومهاجما، وخرج من تحت عباءته كل جماعات العنف المسلح بما فيها ‘تنظيم القاعدة'، وقد تمكن من السيطرة على جماعة الإخوان، وفي السنوات العشر الأخيرة استطاع إسقاط الفروق بين الجناحين، ويتحركون الآن كتنظيم واحد؛ حصر مهمته الحالية في إسقاط ثورة 30 يونيو؛ متحالفا مع جماعة ‘الاشتراكيين الثوريين'.. (جماعة تروتسكية)، وجماعة ‘الفوضويين' المعروفة بالأناركية، وجناح أحمد ماهر في 6 إبريل. وتركت ثورة 30 يونيو أثرا كبيرا على بنية المنطقة العربية وعلى موازين القوى الإقليمية والدولية، ولانت مغاليق ‘العلاقات المحرمة' وتخلخلت، فسمحت بعودة روسيا الاتحادية إلى المنطقة عبر مصر، وقلنا قبلا أن هذه العودة لا بد أن تكون مختلفة عن الحضور السوفييتي السابق، أي أنها عودة مصالح ومنافسة ضمن عضويتها في المنتدى الرأسمالي العالمي، ولم تكن العودة الروسية وحدها هي العلامة البارزة، وكانت المفاجأة في إحياء الحلم الامبراطوري ‘العثماني'، الذي يداعب جفون رجب طيب اردوغان، وفريق ‘العثمانيين' الممسكين بزمام حكم تركيا، ويبدو أن أردوغان تصور أن الحلم ‘العثماني' ممكن التنفيذ مع وصول الإخوان إلى حكم مصر، وراهن على جماعة الإخوان المصرية ، وكان في حاجة إلى استمرارها المدة الكافية لتمكينه من تحقيق حلمه، وأن يتبدد هذا الحلم الامبراطوري ‘العثماني' على يد المصريين ويتحول إلى كابوس، وهذا بالنسبة له جرم لا يغتفر. واختل العقل الرسمي التركي وحل الجنون محل الحكمة، وغطى الهوس على الخطوات المدروسة، وفقدت أنقرة توازنها وغاب عنها رشدها، وتناست أن المنطقة ‘على كف عفريت'؛ كما نقول في مصر، ومرشحة لعدم الاستقرار، على الأقل في المدى المنظور، وإن كانت المنظومة الصهيو غربية قد راهنت على ما تسميه ‘الفوضى الخلاقة' لرسم الخرائط الجديدة وإسقاط دولها الانعزالية، المعادية بطبيعتها لأي اندماج داخل حدودها، والمتخلية عن كل عوامل قوتها الذاتية، لتلقي بنفسها في مهب الريح، مع استسلامها للقوى الإنفصالية وقبولها بثقافتها وقيمها الانعزالية. ومن يرى غير ذلك أطالبه بالاطلاع على تعديلات لجنة الخمسين على دستور 2012 الإخواني الذي يتعامل مع المواطنين بمنطق الرعايا والأقليات الوافدة والأجنبية، وإذا طبق فإنه يؤسس لعصر أشبه بعصر ‘الامتيازات الأجنبية' التي منحها الاحتلال لرعاياه، وأضحت مصر فندقا للضيافة، وليست وطنا للاستقرار، والأخذ به يحقق غايات ‘الفوضى الخلاقة' بقوة القانون وبيد الدولة، عملا بقاعدة ‘بيدي لا بيد عمرو' كما يقول المثل العربي، أي بالرضا العام، وبطريق المحاصصة وأنصبة ملوك الطوائف وشيوخ العشائر ورؤساء العصابات. وأردوغان يعيش انفصاما حادا، فهو يعلم جيدا أنه ترس في ماكينة ‘الفوضى الخلاقة' الجهنمية، وليس في مقدوره انتزاع تركيا من سطوة المنظومة الصهيو غربية، ويتطلع إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي، وملتزم بضوابط وقيود حلف شمال الأطلسي {النيتو)، ويحرص على بقاء أكبر قاعدة عسكرية لهذا الحلف العدواني في بلده، وكيف له أن يحقق حلمه الإمبراطوري ‘العثماني' ، والطموح لا يكفي ما دامت الإرادة مكبلة واليد مغلولة، وبدلا من أن يكون شاغله تحرير الإرادة التركية نجده يتورط في حربه المعلنة ضد مصر، ولم يكن قد اكتفى بالتورط في ‘لعبة الأمم' على الأرض السورية، وأضحى طرفا في النزاعات المسلحة ضد دول الجوار، التي قد تحرق أصابعه وقد لا ينجو منها، وإيقاظ الأحلام ‘العثمانية التوسعية' من سباتها وإطلاقها من عقالها يؤلب عليه الدنيا كلها. ويكفي أنه خسر مصر، وهي خسارة من الصعب تعويضها، وكانت تركيا تشد المصريين إليها، وكانوا يتطلعون الى محاكاتها، وقبل ‘حكم المرشد' كانت محط إعجاب حقيقي، زاد من الإقبال على السلع والبضائع التركية، وهذا سمح له بحضور اجتماعات جامعة الدول العربية، ولم يقنع بهذه المكاسب، نتيجة وقوعه تحت شقي رحى التناقض بين التزامه الأيديولوجي مع الإخوان ودعواهم ب'استاذية العالم'، التي طبعت ‘المشروع القطبي' بالاستعلاء والعنصرية، التي تناظر رؤية الأحزاب الفاشية والنازية، واعتماد ‘العنف المسلح، لنشر الدعوة واستئنافها من جديد؛ على اعتبار أن المسلمين ارتدوا عن دينهم وعادوا إلى ما قبل الإسلام، ويعيشون في جاهلية أطلق عليها ‘جاهلية القرن العشرين'، وقطعا هي الآن ‘جاهلية القرن الواحد والعشرين'. وتحولت بذلك ‘دار الإسلام' حاليا إلى ‘دار حرب' يقتل فيها الأخ أخاه ويهدر فيها الجار دم جاره، على أمل العودة إلى ‘عصر الدعوة الأولى'. وهذا العنف الطائفي والمذهبي ينتشر في سيناء ويتسلل إلى أنحاء متفرقة في البلاد، وضد كل الملل والنحل، وهذا يتجسد في إعلان أردوغان حربا فعلية يحشد فيها ويجيش كل إمكانيات تركيا لاستمرارها، ولا يدخر جهدا إلا وقدمه. ومع تمادي تركيا في حربها ضد مصر فإن أقصى ما اتخذته مصر هو تخفيض التمثيل الدبلوماسي من مستوى السفير إلى درجة قائم بالأعمال، وليس قطع العلاقات. وحملة تركيا التي تبرر موقفها مما يسمى ‘إسقاط الانقلاب'، أشبه بحملة التحالف الصهيو غربي وهو في طريقه لغزو العراق، وحتى على فرض أن ما حدث انقلابا، وهو ادعاء غير صحيح، فمهمة إسقاطه ليست مسؤولية تركيا أو غيرها، بل هي مهمة أصيلة للمصريين الذين أسقطوا نظامين في أقل من ثلاث سنوات. والسنة التي استنتها تركيا ليست في صالحها، خاصة أن البيت التركي من زجاج، لا يتحمل القذف بحجارة الآخرين. وأضاع أردوغان مكاسبه في مصر وسوريا، وهو الذي استقبل في زيارته لمصر (سبتمبر 2011) استقبال الفاتحين، وللعلم حين صرح بأن "الدول العلمانية لا تعني اللادينية وإنما تعني احترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينه"، وقتها انتفض المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان قائلا: ‘إن تجارب الشعوب لا تستنسخ، وظروف تركيا تفرض عليها التعامل بمفهوم الدولة العلمانية'، ووصف تصريح رئيس وزراء تركيا بأنه ‘تدخل في الشؤون الداخلية للبلاد'، وإذا كان مجرد تصريح لفظي اعتبره الإخوان تدخلا في شؤون البلاد، فما هو الموقف منه وهو يحرض ويمد الجماعات المسلحة بالمال والسلاح، ويؤلب الجوار العربي والمجتمع الدولي ضد مصر، ويحتضن اجتماعات التنظيم الدولى وكل الجماعات العاملة على إسقاط الدولة وهدم مؤسساتها. وأردوغان الذي أثار تصريحه أثناء زيارته لمصر حفيظة الإخوان والسلفيين والجهاديين هو نفسه الذي استقبل بشار الأسد في تشرين الاول/اكتوبر 2007، في زيارته الثانية لتركيا، ويومها كتبت الصحف السورية والتركية عن تجاوز العلاقات بين البلدين ‘كل إرث الماضي، الذي بقي لثلاثة عقود محملا بكل مشاعر الشك والعداء، وبات الطريق مفتوحا لبناء علاقات صداقة وتعاون تجاري وسياسي وأمني على قاعدة الأخوة والصداقة وحسن الجوار' وضاع هذا الكلام المعسول مع هبوب رياح التغيير، وهذه الرياح تدق أبواب تركيا بشدة وينسى أردوغان أنه في منطقة ‘على كف عفريت'، ولا ندري وقتها كيف يتصرف؟. بعد أن قطع هو نفسه الخط الموصول الرابط بين أنقرة ودمشق وغزة والقاهرة، وقد يتكسر طموح أردوغان على الصخرة المصرية!!.